القسم الثاني من الموازنة بين الشعرين والإجادة فيهما من الجانبين
مع قوله :
إذا نحن شبهناك بالبدر طالعا بخسناك حظا أنت أبهى وأجمل
ونظلم إن قسناك بالليث في الوغى
لأنك أحمى للحريم وأبسل
القسم الثاني : في البيتين صنعة وتصوير
572- ذكر ما أنت ترى فيه في كل واحد من البيتين صنعة وتصويرا وأستاذية على الجملة، فمن ذلك وهو من النادر قول لبيد :
واكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزري بالأمل
مع قول نافع بن لقيط :
وإذا صدقت النفس لم تترك لها أملا ويأمل ما اشتهى المكذوب
وقول رجل من الخوارج أتي به في جماعة من أصحاب الحجاج فقتلهم ومن عليه ليد كانت عنده وعاد إلى قطري، فقال له قطري، : عاود قتال عدو الله قطري ، فأبى وقال : الحجاج
[ ص: 501 ]
أأقاتل الحجاج عن سلطانه بيد تقر بأنها مولاته
ماذا أقول إذا وقفت إزاءه في الصف واحتجت له فعلاته
وتحدث الأقوام أن صنائعا غرست لدي فحنظلت نخلاته
مع قول : أبي تمام
أسربل هجر القول من لو هجوته إذن لهجاني عنه معروفه عندي
وقول : النابغة
إذا ما غزا بالجيش حلق فوقه عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الصفان أول غالب
مع قول : أبي نواس
وإذا مج القنا علقا وتراءى الموت في صوره
راح في ثنيي مفاضته أسد يدمى شبا ظفره
تتأيى الطير غدوته ثقة بالشبع من جزره
المقصود البيت الأخير .
[ ص: 502 ]
573- وحكى قال : حدثني المرزباني عمرو الوراق قال :
رأيت أبا نواس ينشد قصيدته التي أولها :
أيها المنتاب عن عفره
فحسدته ، فلما بلغ إلى قوله :
تتأيى الطير غدوته ثقة بالشبع من جزره
قلت له : ما تركت شيئا حيث يقول : للنابغة
إذا ما غدا بالجيش
: البيتين - فقال : اسكت فلئن كان سبق فما أسأت الاتباع " .وهذا الكلام من دليل بين في أن المعنى ينقل من صورة إلى صورة . ذاك لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئا، لكان قوله : " فما أسأت الاتباع " : محالا . لأنه على كل حال لم يتبعه في اللفظ . ثم إن الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها في شعر أبي نواس إلى صورة أخرى. وذلك أن هاهنا معنيين : النابغة
أحدهما أصل ، وهو علم الطير بأن الممدوح إذا غزا عدوا كان الظفر له، وكان هو الغالب .
والآخر فرع، وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطاعم من لحوم القتلى .
[ ص: 503 ]
وقد عمد إلى " الأصل " الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب فذكره صريحا وكشف عن وجهه ، واعتمد في " الفرع " الذي هو طمعها في لحوم القتلى ، وأنها لذلك تحلق فوقه- على دلالة الفحوى . النابغة
وعكس القصة فذكر " الفرع " الذي هو طمعها في لحوم القتلى صريحا، فقال كما ترى : أبو نواس
ثقة بالشبع من جزره
وعول في " الأصل " الذي هو علمها بأن الظفر يكون للممدوح، على الفحوى. ودلالة الفحوى على علمها أن الظفر يكون للممدوح، هي في أن قال : " من جزره " . وهي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح حتى تعلم أن الظفر يكون له .
أفيكون شيء أظهر من هذا في النقل عن صورة إلى صورة .
574- أرجع إلى النسق . ومن ذلك قول : أبي العتاهية
شيم فتحت من المدح ما قد كان مستغلقا على المداح
مع قول : أبي تمام
نظمت له خرز المديح مواهب ينفثن في عقد اللسان المفحم
وقول أبي وجزة :
أتاك المجد من هنا وهنا وكنت له بمجتمع السيول
[ ص: 504 ]
مع قول منصور النمري :
إن المكارم والمعروف أودية أحلك الله منها حيث تجتمع
وقول : بشار
الشيب كره وكره أن يفارقني أعجب بشيء على البغضاء مودود
مع قول : البحتري
تعيب الغانيات علي شيبي ومن لي أن أمتع بالمعيب
وقول : أبي تمام
يشتاقه من كماله غده ويكثر الوجد نحوه الأمس
مع قول : ابن الرومي
إمام يظل الأمس يعمل نحوه تلفت ملهوف ويشتاقه الغد
لا تنظر إلى أنه قال : " يشتاقه الغد " فأعاد لفظ ولكن انظر إلى قوله : أبي تمام
يعمل نحوه تلفت ملهوف
وقول : أبي تمام
[ ص: 505 ]
لئن ذمت الأعداء سوء صباحها فليس يؤدي شكرها الذئب والنسر
مع قول : المتنبي
وأنبت منهم ربيع السباع فأثنت بإحسانك الشامل
وقول : أبي تمام
ورب نائي المغاني روحه أبدا لصيق روحي ودان ليس بالداني
مع قول : المتنبي
لنا ولأهله أبدا قلوب تلاقى في جسوم ما تلاقى
وقول أبي هفان :
أصبح الدهر مسيئا كله ما له إلا ابن يحيى حسنه
مع قول : المتنبي
أزالت بك الأيام عتبي كأنما بنوها لها ذنب وأنت لها عذر
وقول علي بن جبلة :
وأرى الليالي ما طوت من قوتي ردته في عظتي وفي إفهامي
مع قول ابن المعتز :
وما ينتقص من شباب الرجال يزد في نهاها وألبابها
[ ص: 506 ]
وقول بكر بن النطاح :
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
مع قول : المتنبي
إنك من معشر إذا وهبوا ما دون أعمارهم فقد بخلوا
وقول : البحتري
ومن ذا يلوم البحر أن بات زاخرا يفيض وصوب المزن إن راح يهطل
مع قول : المتنبي
وما ثناك كلام الناس عن كرم ومن يسد طريق العارض الهطل
وقول الكندي :
عزوا وعز بعزهم من جاوروا فهم الذرى وجماجم الهامات
إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها أو يطلبوا لا يدركوا بترات
مع قول : المتنبي
تفيت الليالي كل شيء أخذته وهن لما يأخذن منك غوارم
وقول : أبي تمام
إذا سيفه أضحى على الهام حاكما غدا العفو منه وهو في السيف حاكم
مع قول : المتنبي
له من كريم الطبع في الحرب منتض ومن عادة الإحسان والصفح غامد
[ ص: 507 ]
575- فانظر الآن نظر من نفى الغفلة عن نفسه، فإنك ترى عيانا أن للمعنى في كل واحد من البيتين من جميع ذلك صورة وصفة غير صورته وصفته في البيت الآخر . وأن العلماء لم يريدوا حيث قالوا : " إن المعنى في هذا هو المعنى في ذاك " أن الذي يعقل من هذا لا يخالف الذي يعقل من ذاك . وأن المعنى عائد عليك في البيت الثاني على هيئته وصفته التي كان عليها في البيت الأول- وأن لا فرق ولا فصل ولا تباين بوجه من الوجوه وأن حكم البيتين مثلا حكم الاسمين قد وضعا في اللغة لشيء واحد كالليث والأسد - ولكن قالوا ذلك على حسب ما يقوله العقلاء في الشيئين يجمعهما جنس واحد، ثم يفترقان بخواص ومزايا، وصفات، كالخاتم والخاتم، والشنف والشنف، والسوار والسوار وسائر أصناف الحلي التي يجمعها جنس واحد، ثم يكون بينهما الاختلاف الشديد في الصنعة والعمل .
576- ومن هذا الذي ينظر إلى بيت الخارجي وبيت ، فلا يعلم أن صورة المعنى في ذلك غير صورته في هذا؟ كيف والخارجي يقول : " واحتجت له فعلاته " أبي تمام
ويقول : أبو تمام
إذن لهجاني عنه معروفه عندي
ومتى كان " احتج " و " هجا " واحدا في المعنى؟
[ ص: 508 ] وكذلك الحكم في جميع ما ذكرناه فليس يتصور في نفس عاقل أن يكون قول : البحتري
وأحب آفاق البلاد إلى الفتى أرض ينال بها كريم المطلب
وقول : المتنبي
وكل مكان ينبت العز طيب
سواء
577- واعلم أن قولنا : " الصورة " إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا ، فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان تبين إنسان من إنسان وفرس من فرس، بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك ، وكذلك كان الأمر في المصنوعات، فكان تبين خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك . ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقا عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا : " للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك " . وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء ، ويكفيك قول : " وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير " . الجاحظ
[ ص: 509 ]
578- واعلم أنه لو كان المعنى في أحد البيتين يكون على هيئته وصفته في البيت الآخر، وكان التالي من الشاعرين يجيئك به معادا على وجهه لم يحدث فيه شيئا، ولم يغير له صفة، لكان قول العلماء في شاعر : " إنه أخذ المعنى من صاحبه فأحسن وأجاد " . وفي آخر : " إنه أساء وقصر " لغوا من القول من حيث كان محالا أن يحسن أو يسيء في شيء لا يصنع به شيئا .
وكذلك كان يكون جعلهم البيت نظيرا للبيت ومناسبا له، خطأ منهم لأنه محال أن يناسب الشيء نفسه، وأن يكون نظيرا لنفسه .
وأمر ثالث، وهو أنهم يقولون في واحد : " إنه أخذ المعنى فظهر أخذه " وفي آخر : " إنه أخذه فأخفى أخذه " . ولو كان المعنى يكون معادا على صورته وهيئته، وكان الآخذ له من صاحبه لا يصنع شيئا غير أن يبدل لفظا مكان لفظ، لكان الإخفاء فيه محالا، لأن اللفظ لا يخفي المعنى، وإنما يخفيه إخراجه في صورة غير التي كان عليها .
579- مثال ذلك أن القاضي أبا الحسن ، ذكر فيما ذكر فيه " تناسب المعاني " بيت أبي نواس :
حليت والحسن تأخذه تنتقي منه وتنتخب
وبيت : عبد الله بن مصعب
كأنك جئت محتكما عليهم تخير في الأبوة ما تشاء
[ ص: 510 ]
وذكر أنهما معا من بيت : بشار
خلقت على ما في غير مخير هواي ولو خيرت كنت المهذبا
والأمر في تناسب هذه الثلاثة ظاهر . ثم إنه ذكر أن أبا تمام قد تناوله فأخفاه وقال :
فلو صورت نفسك لم تزدها على ما فيك من كرم الطباع
580- ومن العجب في ذلك ما تراه إذا أنت تأملت قول : أبي العتاهية
جزي البخيل علي صالحة عني بخفته على ظهري
أعلي وأكرم عن يديه يدي فعلت ونزه قدره قدري
ورزقت من جدواه عافية أن لا يضيق بشكره صدري
وغنيت خلوا من تفضله أحنو عليه بأحسن العذر
ما فاتني خير امرئ وضعت عني يداه مؤونة الشكر
ثم نظرت إلى قول الذي يقول :
أعتقني سوء ما صنعت من الرق فيا بردها على كبدي
فصرت عبدا للسوء منك وما أحسن سوء قبلي إلى أحد