[ ص: 385 ]
تحرير القول في الإعجاز والفصاحة والبلاغة
بسم الله الرحمن الرحيم
457- قد أردنا أن نستأنف تقريرا نزيد به الناس تبصيرا أنهم في عمياء من أمرهم حتى يسلكوا المسلك الذي سلكناه، ويفرغوا خواطرهم لتأمل ما استخرجناه، وأنهم ما لم يأخذوا أنفسهم بذلك، ولم يجردوا عناياتهم له في غرور كمن يعد نفسه الري من السراب اللامع، ويخادعها بأكاذيب المطامع .
بيان في معنى " التحدي " وأي شيء طولبوا أن يأتوا به؟ وهو مهم
458- يقال لهم : إنكم تتلون قول الله تعالى : « قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله » [ سورة الإسراء : 88 ] وقوله عز وجل : « قل فأتوا بعشر سور مثله » [ سورة هود : 13] وقوله : « بسورة من مثله » [ سورة البقرة : 23 ] . فقولوا الآن : أيجوز أن يكون تعالى قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتحدى العرب إلى أن يعارضوا القرآن بمثله، من غير أن يكونوا قد عرفوا الوصف الذي إذا أتوا بكلام على ذلك الوصف، كانوا قد أتوا بمثله؟
ولا بد من " لا " لأنهم إن قالوا : يجوز أبطلوا التحدي من حيث إن التحدي - كما لا يخفى - مطالبة بأن يأتوا بكلام على وصف ولا تصح المطالبة بالإتيان به على وصف من غير أن يكون ذلك الوصف معلوما للمطالب- ويبطل بذلك دعوى الإعجاز أيضا . وذلك لأنه لا يتصور أن [ ص: 386 ] يقال : إنه كان عجز حتى يثبت معجوز عنه معلوم . فلا يقوم في عقل عاقل أن يقول لخصم له : " قد أعجزك أن تفعل مثل فعلي " . وهو لا يشير له إلى وصف يعلمه في فعله، ويراه قد وقع عليه . أفلا ترى أنه لو قال رجل لآخر : " إني قد أحدثت في خاتم عملته صنعة أنت لا تستطيع مثلها " لم تتجه له عليه حجة ولم يثبت به أنه قد أتى بما يعجزه، إلا من بعد أن يريه الخاتم ويشير له إلى ما زعم أنه أبدعه فيه من الصنعة لأنه لا يصح وصف الإنسان بأنه قد عجز عن شيء حتى يريد ذلك الشيء ويقصد إليه، ثم لا يتأتى له . وليس يتصور أن يقصد إلى شيء لا يعلمه، وأن تكون منه إرادة لأمر لم يعلمه في جملة ولا تفصيل .
459- ثم إن هذا الوصف ينبغي أن يكون وصفا قد تجدد بالقرآن، وأمرا لم يوجد في غيره، ولم يعرف قبل نزوله . وإذا كان كذلك فقد وجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون في " الكلم المفردة " لأن تقدير كونه فيها يؤدي إلى المحال وهو أن تكون الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة، قد حدث في مذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن " لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن، وتكون قد اختصت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوة في القرآن، لا يجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن .
ولا يجوز أن تكون في " معاني الكلم المفردة " التي هي لها بوضع [ ص: 387 ] اللغة لأنه يؤدي إلى أن يكون قد تجدد في معنى الحمد و " الرب " ومعنى " العالمين " و " الملك " و " اليوم " و " الدين " . وهكذا وصف لم يكن قبل نزول القرآن . وهذا ما لو كان هاهنا شيء أبعد من المحال وأشنع لكان إياه .
ولا يجوز أن يكون هذا الوصف في ترتيب الحركات والسكنات حتى كأنهم تحدوا إلى أن يأتوا بكلام تكون كلماته على تواليها في زنة كلمات القرآن، وحتى كأن الذي بان به القرآن من الوصف في سبيل بينونة بحور الشعر بعضها من بعض، لأنه يخرج إلى ما تعاطاه مسيلمة من الحماقة في : " إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر " والطاحنات طحنا " .
وكذلك الحكم إن زعم زاعم " أن الوصف الذي تحدوا إليه هو أن يأتوا بكلام يجعلون له مقاطع وفواصل كالذي تراه في القرآن " لأنه أيضا ليس بأكثر من التعويل على مراعاة وزن . وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر . وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو . فلو لم يكن التحدي إلا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي، لم يعوزهم ذلك، ولم يتعذر عليهم . وقد خيل إلى بعضهم - إن كان الحكاية صحيحة - شيء من هذا، حتى وضع على ما زعموا فصول كلام أواخرها كأواخر الآي مثل " يعلمون " و " يؤمنون " وأشباه ذلك .
[ ص: 388 ]
ولا يجوز أن يكون الإعجاز بأن لم يلتق في حروفه ما يثقل على اللسان .
أي شيء بهر العقول من القرآن، وكلام الوليد بن المغيرة والجاحظ وابن مسعود
460- وجملة الأمر أنه لن يعرض هذا وشبهه من الظنون لمن يعرض له إلا من سوء المعرفة بهذا الشأن، أو للخذلان أو لشهوة الإغراب في القول . ومن هذا الذي يرضى من نفسه أن يزعم أن البرهان الذي بان لهم والأمر الذي بهرهم، والهيبة التي ملأت صدورهم، والروعة التي دخلت عليهم فأزعجتهم حتى قالوا : " إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغذق، وإن أعلاه لمثمر " . إنما كان لشيء راعهم من مواقع حركاته، ومن ترتيب بينها وبين سكناته؟ أم لفواصل في أواخر آياته؟ من أين تليق هذه الصفة وهذا التشبيه بذلك؟
أم ترى أن حين قال في صفة القرآن : " لا يتفه ولا يتشان " وقال : " إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات [ ص: 389 ] أتأنق فيهن " أي أتتبع محاسنهن . قال ذلك من أجل أوزان الكلمات، ومن أجل الفواصل في أواخر الآيات؟ ابن مسعود
أم ترى أنهم لذلك قالوا : " لا تفنى عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد " . أم ترى حين قال في كتاب " النبوة " : " ولو أن رجلا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة لتبين له في نظامها ومخرجها، من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها ، ولو تحدي بها أبلغ الجاحظ العرب لأظهر عجزه عنها لغا ولغط " .
فليس كلامه هذا مما ذهبوا إليه في شيء .
461- وينبغي أن تكون موازنتهم بين بعض الآي وبين ما قاله الناس في [ ص: 390 ] معناها كموازنتهم بين : « ولكم في القصاص حياة » [ سورة البقرة : 179 ] وبين : " قتل البعض إحياء للجميع " خطأ منهم لأنا لا نعلم لحديث التحريك والتسكين وحديث الفاصلة مذهبا في هذه الموازنة . ولا نعلمهم أرادوا غير ما يريده الناس إذا وازنوا بين كلام وكلام في الفصاحة والبلاغة ودقة النظم وزيادة الفائدة . ولولا أن الشيطان قد استحوذ على كثير من الناس في هذا الشأن، وأنهم بترك النظر وإهمال التدبر وضعف النية وقصر الهمة، وقد طرقوا له حتى جعل يلقي في نفوسهم كل محال وكل باطل، وجعلوا هم يعطون الذي يلقيه حظا من قبولهم، ويبوؤونه مكانا من قلوبهم لما بلغ من قدر هذه الأقوال الفاسدة أن تدخل في تصنيف، ويعاد ويبدأ في تبيين لوجه الفساد فيها وتعريف .