317- وروي عن عنبسة أنه قال : قدم ذو الرمة الكوفة فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها :
هي البرء والأسقام والهم والمنى وموت الهوى في القلب مني المبرح
وكان الهوى بالنأي يمحى فيمحي
وحبك عندي يستجد ويربح
إذا غير النأي المحبين لم يكد
رسيس الهوى من حب مية يبرح
قال : فلما انتهى إلى هذا البيت ناداه ابن شبرمة : يا غيلان : أراه قد برح ! قال: فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويفكر، ثم قال :
إذا غير النأي المحبين لم أجد رسيس الهوى من حب مية يبرح
[ ص: 275 ]
قال : فلما انصرفت حدثت أبي، قال : أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ما أنكر، وأخطأ ذي الرمة حين غير شعره لقول ذو الرمة ابن شبرمة ، إنما هذا كقول الله تعالى : « ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها » [ سورة النور : 40 ] . وإنما هو لم يرها ولم يكد .
318- واعلم أن سبب الشبهة في ذلك أنه قد جرى في العرف أن يقال : " ما كاد يفعل " و " لم يكد يفعل " : في فعل قد فعل على معنى أنه لم يفعل إلا بعد الجهد، وبعد أن كان بعيدا في الظن أن يفعله كقوله تعالى : « فذبحوها وما كادوا يفعلون » [ سورة البقرة : 71 ] . فلما كان مجيء النفي في " كاد " على هذا السبيل توهم ابن شبرمة أنه إذا قال : لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح، فقد زعم أن الهوى قد برح ووقع مثل هذا الظن . لذي الرمة
وليس الأمر كالذي ظناه، فإن الذي يقتضيه اللفظ إذا قيل : " لم يكد يفعل " و " ما كاد يفعل " أن يكون المراد أن الفعل لم يكن من أصله ولا قارب أن يكون، ولا ظن أنه يكون . وكيف بالشك في ذلك؟ وقد علمنا أن " كاد " موضوع لأن يدل على شدة قرب الفعل من الوقوع، وعلى أنه قد شارف الوجود . وإذا كان كذلك، كان محالا أن يوجب نفيه وجود الفعل، لأنه يؤدي إلى أن يوجب نفي مقاربة الفعل الوجود وجوده، وأن يكون قولك : [ ص: 276 ] " ما قارب أن يفعل " : مقتضيا على البت أنه قد فعل .
319- وإذ قد ثبت ذلك فمن سبيلك أن تنظر فمتى لم يكن المعنى على أنه قد كانت هناك صورة تقتضي أن لا يكون الفعل، وحال يبعد معها أن يكون، ثم تغير الأمر، كالذي تراه في قوله تعالى : « فذبحوها وما كادوا يفعلون » [ سورة البقرة : 71 ] فليس إلا أن تلزم الظاهر، وتجعل المعنى على أنك تزعم أن الفعل لم يقارب أن يكون فضلا عن أن يكون.
فالمعنى إذن في بيت على أن الهوى من رسوخه في القلب وثبوته فيه وغلبته على طباعه بحيث لا يتوهم عليه البراح، وأن ذلك لا يقارب أن يكون، فضلا عن أن يكون، كما تقول : " إذا سلا المحبون وفتروا في محبتهم لم يقع لي في وهم ولم يجر مني على بال: أنه يجوز علي ما يشبه السلوة وما يعد فترة، فضلا عن أن يوجد ذلك مني وأصير إليه . ذي الرمة
وينبغي أن تعلم أنهم إنما قالوا في التفسير : " لم يرها ولم يكد " فبدأوا فنفوا الرؤية ثم عطفوا " لم يكد " عليه، ليعلموك أن ليس سبيل " لم يكد " هاهنا سبيل " ما كادوا " في قوله تعالى : « فذبحوها وما كادوا يفعلون » [ سورة البقرة : 71 ] في أنه نفي معقب على إثبات، وأن ليس المعنى على أن رؤية كانت من بعد أن كادت لا تكون، ولكن المعنى على أن رؤيتها لا تقارب أن تكون فضلا عن أن [ ص: 277 ] تكون . ولو كان " لم يكد " يوجب وجود الفعل لكان هذا الكلام منهم محالا جاريا مجرى أن تقول : لم يرها ورآها فاعرفه.
320- وهاهنا نكتة، وهي أن " لم يكد " في الآية والبيت واقع في جواب " إذا " والماضي إذا وقع في جواب الشرط على هذا السبيل كان مستقبلا في المعنى، فإذا قلت : " إذا خرجت لم أخرج " كنت قد نفيت خروجا فيما يستقبل . وإذا كان الأمر كذلك استحال أن يكون المعنى في البيت أو الآية على أن الفعل قد كان، لأنه يؤدي إلى أن يجيء " بلم أفعل " ماضيا صريحا في جواب الشرط فتقول : " إذا خرجت لم أخرج أمس " وذلك محال . ومما يتضح فيه هذا المعنى قول الشاعر :
ديار لجهمة بالمنحنى سقاهن مرتجز باكر
وراح عليهن ذو هيدب ضعيف القوى ماؤه زاخر
إذا رام نهضا بها لم يكد كذي الساق أخطأها الجابر
321- وأعود إلى الغرض. فإذا بلغ من دقة هذه المعاني أن يشتبه الأمر فيها على مثل خلف الأحمر وابن شبرمة ، وحتى يشتبه على في صواب قاله، فيرى أنه غير صواب، فما ظنك بغيرهم؟ وما يعجبك من أن يكثر التخليط فيه؟ . ذي الرمة
[ ص: 278 ]
" كل " وتفصيل القول فيها في النفي والإثبات وأمثلة ذلك
322- ومن العجب في هذا المعنى قول أبي النجم :
قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع
قد حمله الجميع على أنه أدخل نفسه من رفع " كل " في شيء إنما يجوز عند الضرورة، من غير أن كانت به إليه ضرورة . قالوا : لأنه ليس في نصب " كل " ما يكسر له وزنا، أو يمنعه من معنى أراده . وإذا تأملت وجدته لم يرتكبه ولم يحمل نفسه عليه إلا لحاجة له إلى ذلك، وإلا لأنه رأى النصب يمنعه ما يريد . وذاك أنه أراد أنها تدعي عليه ذنبا لم يصنع منه شيئا البتة لا قليلا ولا كثيرا ولا بعضا ولا كلا . والنصب يمنع من هذا المعنى ويقتضي أن يكون قد أتى من الذنب الذي ادعته بعضه .
وذلك أنا إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل في " كل " والفعل منفي لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن . تقول : " لم ألق كل القوم " و " لم آخذ كل الدراهم " فيكون المعنى أنك لقيت بعضا من القوم ولم تلق الجميع " وأخذت بعضا من الدراهم وتركت الباقي . ولا يكون أن تريد أنك لم تلق واحدا من القوم ولم تأخذ شيئا من الدراهم .
وتعرف ذلك بأن تنظر إلى " كل " في الإثبات وتتعرف فائدته فيه . وإذا نظرت وجدته قد اجتلب لأن يفيد الشمول في الفعل الذي تسنده إلى الجملة أو توقعه بها .
تفسير ذلك أنك إنما قلت : جاءني القوم كلهم لأنك لو قلت : جاءني القوم وسكت لكان يجوز أن يتوهم السامع أنه قد تخلف عنك [ ص: 279 ] بعضهم، إلا أنك لم تعتد بهم أو أنك جعلت الفعل إذا وقع من بعض القوم، فكأنما وقع من الجميع، لكونهم في حكم الشخص الواحد كما يقال للقبيلة : " فعلتم وصنعتم "، يراد فعل قد كان من بعضهم أو واحد منهم . وهكذا الحكم أبدا .
فإذا قلت : رأيت القوم كلهم و " مررت بالقوم كلهم " كنت قد جئت " بكل " لئلا يتوهم أنه قد بقي عليك من لم تره ولم تمرر به .
وينبغي أن يعلم أنا لا نعني بقولنا : " يفيد الشمول " أن سبيله في ذلك سبيل الشيء يوجب المعنى من أصله وأنه لولا مكان " كل " لما عقل الشمول ولم يكن فيما سبق من اللفظ دليل عليه . كيف ولو كان كذلك لم يكن يسمى تأكيدا . فالمعنى أنه يمنع أن يكون اللفظ المقتضي الشمول مستعملا على خلاف ظاهره ومتجوزا فيه .
323- وإذ قد عرفت ذلك فها هنا أصل وهو أنه من حكم النفي إذا دخل على كلام، ثم كان في ذلك الكلام تقييد على وجه من الوجوه أن يتوجه إلى ذلك التقييد، وأن يقع له خصوصا .
تفسير ذلك أنك إذا قلت : أتاني القوم مجتمعين . فقال قائل : لم يأتك القوم مجتمعين . كان نفيه ذلك متوجها إلى الاجتماع الذي هو تقييد في الإتيان دون الإتيان نفسه، حتى أنه إن أراد أن ينفي الإتيان من أصله كان من سبيله أن يقول : " إنهم لم يأتوك أصلا " فما معنى قولك " مجتمعين " هذا مما لا يشك فيه عاقل .
[ ص: 280 ]
وإذا كان هذا حكم النفي إذا دخل على كلام فيه تقييد، فإن التأكيد ضرب من التقييد، فمتى نفيت كلاما فيه تأكيد فإن نفيك ذلك يتوجه إلى التأكيد خصوصا ويقع له.
فإذا قلت : " لم أر القوم كلهم " أو " لم يأتني القوم كلهم " أو " لم يأتني كل القوم " أو " لم أر كل القوم " كنت عمدت بنفيك إلى معنى " كل " خاصة، وكان حكمه حكم " مجتمعين " في قولك : " لم يأتني القوم مجتمعين " . وإذا كان النفي يقع " لكل " خصوصا فواجب إذا قلت : " لم يأتني القوم كلهم " أو " لم يأتني كل القوم " أن يكون قد أتاك بعضهم ، كما يجب إذا قلت : لم يأتني القوم مجتمعين أن يكونوا قد أتوك أشتاتا . وكما يستحيل أن تقول : " لم يأتني القوم مجتمعين " وأنت تريد أنهم لم يأتوك أصلا لا مجتمعين ولا منفردين . كذلك محال أن تقول : " لم يأتني القوم كلهم " وأنت تريد أنهم لم يأتوك أصلا، فاعرفه.
324- واعلم أنك إذا نظرت وجدت الإثبات كالنفي فيما ذكرت لك، ووجدت النفي قد احتذاه فيه وتبعه. وذلك أنك إذا قلت : " جاءني القوم كلهم " كان " كل " فائدة خبرك هذا، والذي يتوجه إليه إثباتك بدلالة أن المعنى على أن الشك لم يقع في نفس المجيء أنه كان من القوم على الجملة، وإنما وقع في شموله " الكل " وذلك الذي عناك أمره من كلامك .
325- وجملة الأمر أنه ما من كلام كان فيه أمر زائد على مجرد إثبات المعنى للشيء، إلا كان الغرض الخاص من الكلام، والذي يقصد إليه ويزجى القول فيه . فإذا قلت : " جاءني زيد راكبا " و " ما جاءني زيد راكبا " كنت قد وضعت كلامك لأن تثبت مجيئه راكبا أو تنفي ذلك، لا لأن تثبت المجيء وتنفيه مطلقا . هذا ما لا سبيل إلى الشك فيه .
[ ص: 281 ]
326- واعلم أنه يلزم من شك في هذا فتوهم أنه يجوز أن تقول : " لم أر القوم كلهم " على معنى أنك لم تر واحدا منهم أن تجري النهي هذا المجرى فتقول : " لا تضرب القوم كلهم " على معنى لا تضرب واحدا منهم وأن تقول : " لا تضرب الرجلين كليهما " : على معنى لا تضرب واحدا منهما . فإذا قال ذلك لزمه أن يحيل قول الناس : " لا تضربهما معا، ولكن اضرب أحدهما " . و " لا تأخذهما جميعا، ولكن واحدا منهما " وكفى بذلك فسادا.
327- وإذ قد بان لك من حال النصب أنه يقتضي أن يكون المعنى على أنه قد صنع من الذنب بعضا وترك بعضا، فاعلم أن الرفع على خلاف ذلك، وأنه يقتضي نفي أن يكون قد صنع منه شيئا، وأتى منه قليلا أو كثيرا ، وأنك إذا قلت : " كلهم لا يأتيك " و " كل ذلك لا يكون " و " كل هذا لا يحسن " كنت نفيت أن يأتيه واحد منهم، وأبيت أن يكون أو يحسن شيء مما أشرت إليه .
328- ومما يشهد لك بذلك من الشعر قوله:
فكيف وكل ليس يعدو حمامه ولا لامرئ عما قضى الله مزحل
[ ص: 282 ]
المعنى على نفي أن يعدو أحد من الناس حمامه بلا شبهة . ولو قلت : " فكيف وليس يعدو كل حمامه " فأخرت " كلا " لأفسدت المعنى وصرت كأنك تقول : " إن من الناس من يسلم من الحمام ويبقى خالدا لا يموت " . ومثله قولدعبل :
فوالله ما أدري بأي سهامها رمتني وكل عندنا ليس بالمكدي
أبا الجيد أم مجرى الوشاح وإنني لأتهم عينيها مع الفاحم الجعد
المعنى على نفي أن يكون في سهامها مكد على وجه من الوجوه .
330- ومن البين في ذلك ما جاء في حديث ذي اليدين حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " كل ذلك لم يكن " . فقال ذو اليدين : بعض ذلك قد كان " . المعنى : لا محالة على نفي [ ص: 283 ] الأمرين جميعا وعلى أنه عليه السلام أراد أنه لم يكن واحد منهما لا القصر ولا النسيان . ولو قيل : " لم يكن كل ذلك " لكان المعنى أنه قد كان بعضه.
331- واعلم أنه لما كان المعنى مع إعمال الفعل المنفي في " كل " نحو : " لم يأتني القوم كلهم " و " لم أر القوم كلهم " . على أن الفعل قد كان من البعض ووقع على البعض، قلت : " لم يأتني القوم كلهم ولكن أتاني بعضهم " . و " لم أر القوم كلهم ولكن رأيت بعضهم " فأثبت بعد ما نفيت ، ولا يكون ذلك مع رفع " كل " بالابتداء . فلو قلت : " كلهم لم يأتني ولكن أتاني بعضهم " . و " كل ذلك لم يكن ولكن كان بعض ذلك " لم يجز لأنه يؤدي إلى التناقض، وهو أن تقول : " لم يأتني واحد منهم، ولكن أتاني بعضهم " .
332- واعلم أنه ليس التأثير لما ذكرنا من إعمال الفعل وترك إعماله على الحقيقة ، وإنما التأثير لأمر آخر وهو دخول " كل " في حيز النفي، وأن لا يدخل فيه . وإنما علقنا الحكم في البيت وسائر ما مضى بإعمال الفعل وترك إعماله من حيث كان إعماله فيه يقتضي دخوله في حيز النفي، وترك إعماله يوجب خروجه منه من حيث كان الحرف النافي في البيت حرفا لا ينفصل عن الفعل، وهو " لم " لا أن كونه معمولا للفعل وغير معمول، [ ص: 284 ] يقتضي ما رأيت من الفرق . أفلا ترى أنك لو جئت بحرف نفي يتصور انفصاله عن الفعل، لرأيت المعنى في " كل " مع ترك إعمال الفعل، مثله مع إعماله، ومثال ذلك قوله :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
وقول الآخر :
ما كل رأي الفتى يدعو إلى رشد
" كل " كما ترى غير معمل فيه الفعل ومرفوع، إما بالابتداء، وإما بأنه اسم " ما " . ثم إن المعنى مع ذلك على ما يكون عليه إذا أعملت فيه الفعل فقلت : " ما يدرك المرء كل ما يتمناه " و " ما يدعو كل رأي الفتى إلى رشد " وذلك أن التأثير لوقوعه في حيز النفي وذلك حاصل في الحالين . ولو قدمت " كلا " في هذا فقلت : " كل ما يتمنى المرء لا يدركه " و " كل رأي الفتى لا يدعو إلى رشد " لتغير المعنى، ولصار بمنزلة أن يقال : " إن المرء لا يدرك شيئا مما يتمناه " و " لا يكون في رأي الفتى ما يدعو إلى رشد بوجه من الوجوه " .
333- واعلم أنك إذا أدخلت " كلا " في حيز النفي، وذلك بأن تقدم النفي عليه لفظا أو تقديرا، فالمعنى على نفي الشمول دون نفي الفعل [ ص: 285 ] والوصف نفسه . وإذا أخرجت " كلا " من حيز النفي ولم تدخله فيه، لا لفظا ولا تقديرا، كان المعنى على أنك تتبعت الجملة، فنفيت الفعل والوصف عنها واحدا واحدا . والعلة في أن كان ذلك كذلك، أنك إذا بدأت " بكل " كنت قد بنيت النفي عليه، وسلطت الكلية على النفي وأعملتها فيه . وإعمال معنى الكلية في النفي يقتضي أن لا يشذ شيء عن النفي فاعرفه.
334- واعلم أن من شأن الوجوه والفروق أن لا يزال تحدث بسببها وعلى حسب الأغراض والمعاني التي تقع فيها، دقائق وخفايا لا إلى حد ونهاية، وأنها خفايا تكتم أنفسها جهدها حتى لا يتنبه لأكثرها، ولا يعلم أنها هي ، وحتى لا تزال ترى العالم يعرض له السهو فيه، وحتى إنه ليقصد إلى الصواب فيقع في أثناء كلامه ما يوهم الخطأ، كل ذلك لشدة الخفاء وفرط الغموض .