- هذا وهاهنا أمر سوى ما مضى يوجب الاستئناف وترك العطف، وهو أن الحكاية عنهم بأنهم قالوا : كيت وكيت، تحرك السامعين لأن يعلموا مصير أمرهم وما يصنع بهم، وأتنزل بهم النقمة عاجلا أم لا تنزل ويمهلون- وتوقع في أنفسهم التمني لأن يتبين لهم ذلك . وإذا كان كذلك كان هذا الكلام الذي هو قوله : « الله يستهزئ بهم » في معنى ما صدر جوابا عن هذا المقدر وقوعه في أنفس السامعين . وإذا كان مصدره كذلك كان حقه أن يؤتى به مبتدأ غير معطوف، ليكون في صورته إذا قيل : " فإن سألتم قيل لكم : « الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ».
266- وإذا استقريت وجدت هذا الذي ذكرت لك من تنزيلهم الكلام إذا جاء بعقب ما يقتضي سؤالا، منزلته إذا صرح بذلك السؤال كثيرا . فمن لطيف ذلك قوله :
زعم العواذل أنني في غمرة صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي !
[ ص: 236 ]
لما حكى عن العواذل أنهم قالوا : " هو في غمرة " . وكان ذلك مما يحرك السامع لأن يسأله فيقول : فما قولك في ذلك وما جوابك عنه؟ أخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له، وصار كأنه قال : أقول صدقوا أنا كما قالوا، ولكن لا مطمع لهم في فلاحي . ولو قال : " زعم العواذل أنني في غمرة وصدقوا " لكان يكون لم يضع في نفسه أنه مسؤول وأن كلامه كلام مجيب :
ومثله قول الآخر في الحماسة :
زعم العواذل أن ناقة جندب بجنوب خبت عريت وأجمت
كذب العواذل لو رأين مناخنا بالقادسية قلن : لج وذلت
وقد زاد هذا أمر القطع والاستئناف وتقدير الجواب، تأكيدا بأن وضع الظاهر موضع المضمر، فقال : " كذب العواذل " ولم يقل : " كذبن " . وذلك أنه لما أعاد ذكر العواذل ظاهرا، كان ذلك أبين وأقوى لكونه كلاما مستأنفا من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله، وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام .
268- ومما هو على ذلك قول الآخر :
زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف
[ ص: 237 ]
وذلك أن قوله : لهم إلف تكذيب لدعواهم أنهم من قريش . فهو إذن بمنزلة أن يقول : كذبتم لهم إلف وليس لكم ذلك . ولو قال : زعمتم أن إخوتكم قريش ولهم إلف وليس لكم إلاف " لصار بمنزلة أن يقول : " زعمتم أن إخوتكم قريش وكذبتم " في أنه كان يخرج عن أن يكون موضوعا على أنه جواب سائل يقول له : " فماذا تقول في زعمهم ذلك وفي دعواهم؟ " فاعرفه .
واعلم أنه لو أظهر " كذبتم " لكان يجوز له أن يعطف هذا الكلام الذي هو قوله : " لهم إلف " عليه بالفاء فيقول : " كذبتم فلهم إلف، وليس لكم ذلك " . فأما الآن فلا مساغ لدخول الفاء البتة، لأنه يصير حينئذ معطوفا بالفاء على قوله : " زعمتم أن إخوتكم قريش " وذلك يخرج إلى المحال، من حيث يصير كأنه يستشهد بقوله : لهم إلف . على أن هذا الزعم كان منهم، كما أنك إذا قلت : " كذبتم فلهم إلف " كنت قد استشهدت بذلك على أنهم كذبوا، فاعرف ذلك .
269- ومن اللطيف في الاستئناف على معنى جعل الكلام جوابا في التقدير، قول : اليزيدي
ملكته حبلي ولكنه ألقاه من زهد على غاربي
وقال : إني في الهوى كاذب انتقم الله من الكاذب
[ ص: 238 ]
استأنف قوله : " انتقم الله من الكاذب " لأنه جعل نفسه كأنه يجيب سائلا قال له : " فما تقول فيما اتهمك به من أنك كاذب؟ " فقال : أقول : " انتقم الله من الكاذب " . 270- ومن النادر أيضا في ذلك قول الآخر :
قال لي : كيف أنت؟ قلت : عليل سهر دائم وحزن طويل
لما كان في العادة إذا قيل للرجل : " كيف أنت؟ فقال : " عليل أن يسأل ثانيا فيقال : ما بك؟ وما علتك؟ قدر كأنه قد قيل له ذلك فأتى بقوله : سهر دائم جوابا عن هذا السؤال المفهوم من فحوى الحال، فاعرفه .
271- ومن الحسن البين في ذلك قول : المتنبي
وما عفت الرياح له محلا عفاه من حدا بهم وساقا
لما نفى أن يكون الذي يرى به من الدروس والعفاء من الرياح ، وأن تكون التي فعلت ذلك، وكان في العادة إذا نفي الفعل الموجود الحاصل عن واحد فقيل : " لم يفعله فلان " أن يقال : فمن فعله؟ قدر كأن قائلا قال : " قد زعمت أن الرياح لم تعف له محلا، فما عفاه إذن؟ " فقال مجيبا له : " عفاه من حدا بهم وساقا " .
272- ومثله قول : الوليد بن يزيد
عرفت المنزل الخالي عفا من بعد أحوال
[ ص: 239 ]
عفاه كل حنان عسوف الوبل هطال
لما قال : " عفا من بعد أحوال " قدر كأنه قيل له : " فما عفاه؟ " فقال : " عفاه كل حنان.
273- واعلم أن السؤال إذا كان ظاهرا مذكورا في مثل هذا، كان الأكثر أن لا يذكر الفعل في الجواب، ويقتصر على الاسم وحده . فأما مع الإضمار فلا يجوز إلا أن يذكر الفعل .
تفسير هذا أنه يجوز لك إذا قيل : " إن كانت الرياح لم تعفه فما عفاه ؟ " أن تقول : " من حدا بهم وساقا " ولا تقول : " عفاه من حدا " . كما تقول في جواب من يقول : " من فعل هذا؟ " زيد . ولا يجب أن تقول : " فعله زيد " .
وأما إذا لم يكن السؤال مذكورا كالذي عليه البيت، فإنه لا يجوز أن يترك ذكر الفعل . فلو قلت مثلا : " وما عفت الرياح له محلا من حدا بهم وساقا " تزعم أنك أردت " عفاه من حدا بهم " ثم تركت ذكر الفعل، أحلت لأنه إنما يجوز تركه حيث يكون السؤال مذكورا، لأن ذكره فيه يدل على إرادته في الجواب، فإذا لم يؤت بالسؤال لم يكن إلى العلم به سبيل، فاعرف ذلك .
[ ص: 240 ]
وأمثلته ما جاء في التنزيل " قال " غير معطوف
274- واعلم أن الذي تراه في التنزيل من لفظ " قال " مفصولا غير معطوف، هذا هو التقدير فيه، والله أعلم . أعني مثل قوله تعالى : « هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين . إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون . فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين . فقربه إليهم قال ألا تأكلون . فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف » [ سورة الذاريات : 24- 28 ] جاء على ما يقع في أنفس المخلوقين من السؤال . فلما كان في العرف والعادة فيما بين المخلوقين إذا قيل لهم : " دخل قوم على فلان فقالوا كذا " أن يقولوا : فما قال هو؟ ويقول المجيب : قال كذا " أخرج الكلام ذلك المخرج لأن الناس خوطبوا بما يتعارفونه، وسلك باللفظ معهم المسلك الذي يسلكونه .
وكذلك قوله : « قال ألا تأكلون » وذلك أن قوله : « فجاء بعجل سمين فقربه إليهم » يقتضي أن يتبع هذا الفعل بقول، فكأنه قيل والله أعلم : فما قال حين وضع الطعام بين أيديهم؟ فأتى قوله : « قال ألا تأكلون » جوابا عن ذلك . وكذا قالوا لا تخف لأن قوله : « فأوجس منهم خيفة » يقتضي أن يكون من الملائكة كلام في تأنيسه وتسكينه مما خامره . فكأنه قيل : فما قالوا حين رأوه وقد تغير ودخلته الخيفة؟ فقيل : « قالوا لا تخف » .
275- وذلك والله أعلم المعنى في جميع ما يجيء منه على كثرته، كالذي يجيء في قصة فرعون عليه اللعنة، وفي رد موسى عليه السلام عليه كقوله : « قال فرعون وما رب العالمين . قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين . قال لمن حوله ألا تستمعون . قال ربكم ورب آبائكم الأولين . قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون . قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون . قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين . قال أولو جئتك بشيء مبين . قال فأت به إن كنت من الصادقين » [ سورة الشعراء : 23- 31 ] . [ ص: 241 ] جاء ذلك كله، والله أعلم، على تقدير السؤال والجواب كالذي جرت به العادة فيما بين المخلوقين، فلما كان السامع منا إذا سمع الخبر عن فرعون بأنه قال : " وما رب العالمين؟ " وقع في نفسه أن يقول : " فما قال موسى له؟ " أتى قوله : « قال رب السماوات والأرض » مأتى الجواب مبتدأ مفصولا غير معطوف . وهكذا التقدير والتفسير أبدا في كل ما جاء فيه لفظ " قال " هذا المجيء . وقد يكون الأمر في بعض ذلك أشد وضوحا.
276- فمما هو في غاية الوضوح قوله تعالى : « قال فما خطبكم أيها المرسلون . قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين » [ سورة الحجر : 57، 58 ] وذلك أنه لا يخفى على عاقل أنه جاء على معنى الجواب، وعلى أن نزل السامعون كأنهم قالوا : " فما قال له الملائكة؟ " فقيل : « قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين » .
وكذلك قوله عز وجل في سورة يس : « واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون . إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون . قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون . قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون . وما علينا إلا البلاغ المبين . قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم . قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون . وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين . اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون » [ سورة يس : 13-21 ] [ ص: 242 ] التقدير الذي قدرناه من معنى السؤال والجواب بين ظاهر في ذلك كله، ونسأل الله التوفيق للصواب والعصمة من الزلل .