بعد أن ذكر حال عباد الله مع الله؛ ومع الناس؛ أخذ - سبحانه وتعالى - يذكر حالهم في أنفسهم؛ ودنياهم؛ وأسرهم؛ فقال - عز من قائل -: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ؛ " الإنفاق " ؛ هو الصرف فيما يقيم الأود ويدفع الجوع؛ و " الإسراف " ؛ هو الإنفاق في غير الحاجة؛ بالزيادة عليها؛ هو الإنفاق في غير حق لله؛ أو [ ص: 5315 ] للناس؛ أو لنفسه؛ ولقد قال والإسراف المنهي عنه " من أنفق مائة ألف في حق؛ فليس بمسرف؛ ومن أنفق درهما في غير حقه؛ فهو مسرف؛ ومن منع من حق عليه فقد قتر " ؛ وظاهر الآية أن عباد الرحمن قد أخذوا بقوله (تعالى): ابن عباس: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ؛ و " القتر " ؛ هو التضييق على النفس؛ بحيث يكون في قدرة؛ ويحرم نفسه من أقل مطالب الحياة؛ أو يضيق فيها؛ و " الإقتار " : الفقر؛ أو الضيق في المادة؛ كما قال (تعالى): على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ؛ ومعنى الآية أنه ينفق في حلال بمقدار طاقته وقدرته؛ ولا يضيق على نفسه في الحلال؛ وكان بين ذلك قواما ؛ أي: عدلا بين الإسراف والقتر.
وإن النص الكريم يفهم منه أمران؛ أحدهما: ألا ينفق في حرام قط؛ وألا يضن عن حلال موجود؛ إلا تربية للنفس وتهذيبا؛ وفطما لها عن الشهوات؛ ولذا كان - رضي الله عنه - يعد من يطلب كل ما يشتهى مسرفا؛ لأنه إذا حق الأمر لا يستطيع قدع نفسه عن شهواتها. عمر
الأمر الثاني: أن ما دام ينفق في مطلوب؛ وما دام كسبه واسعا؛ ولقد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإنفاق بين الإسراف والقتر يختلف باختلاف أحوال الأشخاص؛ فإذا كان الرجل كسوبا؛ فعليه أن ينفق في الحلال؛ والجهاد؛ بمقدار كسبه وطاقته؛ كل موفور ماله؛ لأنه تاجر كسوب؛ يعرف مواضع الكسب والخسارة؛ ولم يقبله من غيره؛ وقد قال (تعالى): أبي بكر ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ؛
؛ أي: السهل اللين الذي لا يجهد ذا المال إنفاقه؛ ولا يصعب عليه.
هذه أحوال إيجابية هي التي صورت شخصية عباد الرحمن؛ والتي كونت فيهم الإيمان والعمل الصالح؛ والجمع بين سلامة القلب؛ واستقامة العمل؛ وتكوين الإنسان النافع؛