وقد ذكر - سبحانه - ما اجتنبوه؛ وهو كبريات المساوئ الإنسانية؛ كما أنهم تحلوا بأعلى المناهج الكمالية؛ فقال (تعالى): والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ؛ وهذا أول معصية تحط من قدر الإنسان؛ وتنزل به إلى أكبر المهاوي الإنسانية؛ " يدعون " ؛ يعني: يعبدون؛ لأن العبادة دعاء لله (تعالى)؛ وضراعة إليه؛ وتسليم كل أمورهم في جنب الله؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -؛ والإنسان يهبط في درجة الإنسانية إذا عبد غير الله؛ وأي كرامة إنسانية لمن يعبد حجرا لا يضر ولا ينفع؛ أو يعبد إنسانا مثله؛ أو يعبد ما يصوره وهمه؛ كالملائكة؛ يتصور أنها تعبد؛ أو نارا؛ أو غيرها؛ إن هذا انهواء إنساني؛ ومن يعبد شيئا من هذا؛ فإنما يعبد وهما؛ تدفع إليه شهوة منحرفة؛ فقد اتخذ إلهه هواه. والدعاء مخ العبادة؛
هذا هو الانحراف الأول الذي تجنبه عباد الرحمن؛ أما الانحراف الثاني الذي تجنبوه فقد نفاه الله (تعالى) عنهم بقوله - عز من قائل -: ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ؛ وهذا وصف للعاصين؛ وهو المشاكسة التي تؤدي إلى القتل؛ فهذا مقابل للسلام في قوله (تعالى): وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ؛ وقوله (تعالى): إلا بالحق ؛ الجار والمجرور متعلق " لا يقتلون " ؛ " الحق " ؛ هو الأمر الثابت؛ الذي يسوغ القتل؛ من اعتداء أثيم؛ أو زنا؛ أو ردة بعد إيمان؛ وهذا النص يفيد أن [ ص: 5317 ] الأصل في النفوس الصيانة؛ وألا يعتدى عليها؛ وأن يحفظ أمنها؛ وأنه لا تستباح الأنفس؛ إلا بحق؛ كما قال (تعالى): من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا
والأمر الثالث الذي نفاه الله (تعالى) عن عباد الرحمن: الاعتداء على النسل بالزنا؛ ولذا قال (تعالى): ولا يزنون ؛ لأن إشاعة الزنا تضيع النسل؛ ولا تجعل الناس في أمن ودعة؛ وتضعف الوحدة الإنسانية؛ ويكون الناس في تناحر؛ وتنزل بالقيمة الإنسانية إلى دركة الحيوانية؛ ولقد قال محمد - صلى الله عليه وسلم -: " وما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة في رحم امرأة لا تحل له " .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق؛ وتدع الخالق؛ وينهاك أن تقتل ولدك؛ وتغذو كلبك؛ وينهاك أن تزني بحليلة جارك " .
وقد ذكر - سبحانه وتعالى - عقاب هذه المآثم التي هي أمهات الرذائل؛ فقال: ومن يفعل ذلك يلق أثاما ؛ " الأثام جزاء الإثم وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى؛ أي أنه جزاء من نوع ما ارتكب؛ ولكنه جزاء كبير؛ وإطلاق " الأثام " ؛ بمعنى جزاء الإثم؛ وارد في اللغة العربية؛ فقد جاء في الكشاف هذا البيت من الشعر:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثام
وإن هذا الأثام شديد؛ حتى إنه ليحسب أنه مضاعف الإثم؛ ليس مثله؛ ولذا قال (تعالى) - في بيان هذا الأثام وتوضيحه -: يضاعف له العذاب يوم القيامة ؛ إن الله (تعالى) عدل؛ يجازي السيئة بمثلها؛ ورحيم يجازي الحسنة بعشرة أمثالها؛ فكيف يجعل العقاب ضعف الذنب؛ أجاب عن ذلك صاحب الكشاف بأن المضاعفة لأنه عقاب الشرك؛ وعقاب الذنب الذي ارتكب من قتل نفس وزنا؛ ونقول حينئذ: لا مضاعفة.
والذي يبدو لي - غير متطاول على مقام - أن العذاب شديد [ ص: 5318 ] عنيف؛ حتى إنه ليبدو لدى المعاقب كأنه مضاعف للذنب؛ وإن المذنب دائما يحس بالجزاء كأنه أكثر من الذنب؛ فالله (تعالى) يصور له العقاب كأنه مضاعف؛ ولأنه يتجدد آنا بعد آن؛ كلما نضجت جلودهم بدلهم الله (تعالى) جلودا غيرها؛ فهو عذاب بعد عذاب؛ وبهذا التكرار الدائم يكون كأنه مضاعف. الزمخشري
وإنه عذاب دائم مستمر؛ ولذا قال (تعالى): ويخلد فيه مهانا ؛ أي أنه مستمر مع مهانته الشديدة الواضحة الدائمة المستمرة؛ وكذلك يستبدل الله؛ بغطرستهم الجاهلية؛ واعتزازهم الظالم العاتي؛ مهانة دائمة مستمرة؛