ولما ذكر سبحانه من جلافتهم ما ختمه بلعنهم وكان قد قدم ذكر كتابهم مرارا وأشار إلى الإنجيل بإيتاء عيسى عليه السلام البينات ذكر سبحانه كفرهم بهذا الكتاب الذي مقصود السورة وصفه بالهدى وبهذا الرسول الآتي به دليلا على إغراقهم في الكفر ، لأنهم مع استفتاحهم به صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه على من يعاديهم واستبشارهم به وإشهادهم أنفسهم بالسرور بمجيئه كانوا أبعد الناس من دعوته تماديا في الكفر [ ص: 36 ] وتقيدا بالضلال ; فكان هذا الدليل أبين من الأول عند أهل ذلك العصر وذلك قوله تعالى : ولما جاءهم كتاب أي : جامع لجميع الهدى لعظمته لكونه من عند الله الجامع لجميع صفات الكمال ، ثم ذكر من المحببات لهم في اتباعه قوله : مصدقا لما معهم على لسان نبي يعرفون صحة أمره بأمور يشهد بها كتابهم ، وبتصديق هذا الكتاب له بإعجاز نظمه وتصديق معناه لكتابهم ، والجواب محذوف ودل ما بعد على أنهم كفروا به ، وفي ذلك قاصمة لهم لأن كتابهم يكون شاهدا على كفرهم ، ولما بين شهادة كتابهم أتبعه شهادتهم لئلا يحرفوا معنى ذلك فقال : وكانوا أي : والحال أنهم كانوا ، ولما كان استفتاحهم في بعض الزمان أثبت الجار فقال : من قبل أي : قبل مجيئه ، يستفتحون أي : يسألون الله الفتح بالاسم الآتي به تيمنا بذكره ، على الذين كفروا يعني : أنهم لم يكونوا في غفلة عنه بل كانوا أعلم الناس به ، وقد وطنوا [ ص: 37 ] أنفسهم على تصديقه ، ومع ذلك كله فلما جاءهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم علم ما عرفوا أي : من صدقه بما ذكر من نعوته في كتابهم ، كفروا به اعتلالا بأنواع من العلل البينة الكذب ، منها زعمهم أن جبريل عليه السلام عدوهم وهو الآتي به ; قال الثعلبي : روى والواحدي رضي الله عنهما ابن عباس أن عبد الله بن صوريا حاج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء ، فلما اتجهت الحجة عليه قال : أي ملك يأتيك من السماء ؟ قال : جبريل ، ولم يبعث الله نبيا إلا وهو وليه -وفي رواية : وسأله عمن يهبط عليه بالوحي ، فقال : جبريل- فقال : ذاك عدونا ، ولو كان غيره لآمنا بك .
وقال في السيرة : حدثني ابن إسحاق عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر بن حوشب الأشعري أن نفرا من أحبار يهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : خبرنا عن أربع نسألك عنهن ، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني ، قالوا : نعم ، قال : فاسألوا عما بدا لكم ! [ ص: 38 ] قالوا : فأخبرنا : كيف يشبه الولد أمه وإنما النطفة من الرجل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة ونطفة المرأة صفراء رقيقة فأيتهما علت صاحبتها كان الشبه لها ؟ قالوا : اللهم نعم ، قالوا : فأخبرنا عن كيف نومك ؟ قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به تنام عينه وقلبه يقظان ؟ قالوا : اللهم نعم ، قال : فكذلك نومي ، تنام عيني وقلبي يقظان ، قالوا : فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه ، قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها فحرم على نفسه أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها ؟ قالوا : اللهم نعم ; قالوا : فأخبرنا عن الروح ، قال : أنشدكم بالله وبأيامه هل تعلمون جبريل وهو الذي يأتيني ؟ قالوا : اللهم نعم ولكنه يا محمد لنا عدو ، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ، ولولا ذلك لاتبعناك ، فأنزل الله فيهم : من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين إلى قوله : أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق [ ص: 39 ] منهم بل أكثرهم لا يؤمنون وأصل ذلك في في خلق البخاري آدم والهجرة والتفسير عن رضي الله عنه -من روايات جمعت بين ألفاظها- قال : أنس بن مالك المدينة أي : في الهجرة إلى أن قال : فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار رضي الله عنه ، فإنه ليحدث أهله إذ سمع به أبي أيوب وهو في نخل لأهله يخترف لهم ، فعجل أن يضع التي يخترف لهم فيها فجاء وهي معه ، [ ص: 40 ] فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع إلى أهله ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : أي بيوت أهلنا أقرب ، فذكر نزوله على عبد الله بن سلام رضي الله عنه ثم قال : فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء أبي أيوب رضي الله عنه فقال : أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق ! وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت ، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في ، وفي رواية : بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف فأتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ، ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله ؟ -وفي رواية : وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبرني بهن عبد الله بن سلام جبريل آنفا ، فقال عبد الله : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله أما أول أشراط الساعة : فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة : فزيادة كبد حوت -وفي رواية الحوت- ، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان [ ص: 41 ] الشبه له ، وإذا سبقت كان الشبه لها -وفي رواية : وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت- قال : أشهد أنك رسول الله ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت ، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك ، فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا عليه -وفي رواية : فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت- فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر اليهود ! ويلكم اتقوا الله ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله وأني جئتكم بحق فأسلموا ، قالوا : ما نعلمه ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وقالها ثلاث مرار ، قال : فأي رجل فيكم ؟ قالوا : ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا ، قال : أفرأيتم إن أسلم قالوا : حاشا لله ! ما كان ليسلم -وفي رواية : أعاذه الله من ذلك- قال : يا عبد الله بن سلام ابن سلام اخرج عليهم ، فخرج فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق ، قالوا : كذبت ، وقالوا : شرنا وابن شرنا ، ووقعوا فيه فانتقصوه ، قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله ، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى في أسباب النزول وللواحدي عن رضي الله عنه قال : كنت آتي [ ص: 42 ] اليهود عند دراستهم التوراة فأعجب من موافقة القرآن التوراة وموافقة التوراة القرآن ، فقالوا : يا عمر ! ما أحد أحب إلينا منك ، قلت : ولم ؟ قالوا : لأنك تأتينا وتغشانا ، قلت : إنما أجيء لأعجب من تصديق كتاب الله بعضه بعضا وموافقة التوراة القرآن وموافقة القرآن التوراة ، فبينا أنا عندهم ذات يوم إذ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف ظهري فقالوا : إن هذا صاحبك فقم إليه ، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل خوخة من عمر المدينة ، فأقبلت عليهم فقلت : أنشدكم الله وما أنزل عليكم من كتاب أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال سيدهم : قد نشدكم بالله فأخبروه ، فقالوا : أنت سيدنا فأخبره ، فقال سيدهم : نعلم أنه رسول الله ، قلت : فإني أهلككم إن كنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تتبعوه ، فقالوا : إن لنا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة ، فقلت : من عدوكم ومن سلمكم ؟ قالوا : عدونا جبريل ، قلت : ومن سلمكم ؟ قالوا : ميكائيل ، قلت : فإني أشهد ما يحل لجبريل أن يعادي سلم ميكائيل ، وما يحل لميكائيل أن يسالم عدو جبريل ، وإنهما جميعا ومن معهما أعداء لمن عادوا وسلم لمن سالموا ، ثم قمت فاستقبلني -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال : يا ألا أقرئك آيات ؟ فقرأ : ابن الخطاب من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك حتى بلغ وما يكفر بها إلا الفاسقون قلت : والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا أخبرك بقول اليهود فإذا اللطيف [ ص: 43 ] الخبير قد سبقني بالخبر ! قال : فلقد رأيتني في دين الله أشد من حجر ، عمر انتهى .
وقد سألت بعض فضلاء اليهود الموجودين في زماننا عن عداوتهم لجبريل عليه السلام فلم يسمح بالتصريح وقال : ما يعطى ذلك .
وقد روى هذا الحديث أيضا في مسنده عن إسحاق بن راهويه عن الشعبي رضي الله عنه ، قال شيخنا عمر : وهو مرسل صحيح الإسناد وفيه : أنه قال لهم : وكيف منزلتهما من ربهما ؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والآخر من الجانب الآخر ، وإني أشهد أنهما وربهما سلم لمن سالموا وحرب لمن حاربوا . البوصيري