وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
قال الشيخ الإمام العلامة ذو الفنون العديدة ، والتصانيف المفيدة، والأقاويل السديدة ،أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي الشافعي - رحمه الله تعالى - آمين :
[ ص: 3 ] الحمد لله الذي أنزل الكتاب متناسبا سوره وآياته، متشابها فواصله وغاياته، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي تمت كلماته، وعمت مكرماته، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده الذي ختمت به نبواته، وكملت برسالاته رسالاته، توالت عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأحبابه صلواته، وتواتر تسليمه وبركاته ما دامت حياته، وبقيت ذاته وصفاته، وبعد.
فهذا كتاب عجاب رفيع الجناب في فن ما رأيت من سبقني إليه ولا عول ثاقب فكره عليه، أذكر فيه إن شاء الله مناسبات ترتيب السور والآيات، أطلت فيه التدبر ، وأنعمت فيه التفكر لآيات الكتاب امتثالا لقوله تعالى ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب واستنانا بما أشار عليه أمير المؤمنين - كرم الله وجهه ورضي عنه - فيما خرجه علي بن أبي طالب " في الجهاد وغيره عن البخاري قال: قلت أبي جحيفة - رضي الله عنه -: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهم [ ص: 4 ] يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة الحديث، وتعرضا لنفحات ما أشار إليه ما أخرجه لعلي وغيره عن البخاري - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عبد الله بن عمر ، بلغوا عني ولو آية وغيره أيضا عن والبخاري وغيره -رضي الله عنه - أنه صلى الله عليه وسلم، قال: أبي بكرة، ووقوفا على الباب الذي اطلع عليه حبر الأمة، وبحر علومها الجمة ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع - رضي الله عنهما - فيما رواه الشيخان عبد الله بن عباس وهذا لفظه: والطبراني، - رضي الله عنها - فوضع للنبي صلى الله عليه وسلم طهورا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من وضعه ؟ قيل: ميمونة -رضي الله عنهما – قال: فضرب على منكبي، وقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل ابن عباس وروى عنه الإمام أنه - رضي الله عنه - كان في بيت خالته في مقدمة تفسيره، والإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في مقدمة كتاب الوقف [ ص: 5 ] والابتداء أنه قال رضي الله عنه: "تفسير القرآن على أربعة وجوه: تفسير يعلمه العلماء، وتفسير يعرفه أبو بكر بن الأنباري العرب، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل، فمن ادعى علما به فهو كاذب"، وقال شيخ الإسلام ولي الله محيي الدين النواوي في آخر كتاب الغسل من شرح المهذب: " ويحرم والكلام في معانيه لمن ليس من أهله، وهذا مجمع عليه، وأما تفسيره بغير علم، فحسن بالإجماع فأمدني فيه، والحمد لله تأييد سماوي، فجعله كالرديف لتفسير القاضي تفسير العلماء ناصر الدين البيضاوي، ولعل تسهيله كان ببركة مبشرة من آثار النبوة رأيتها في صباي، وأنا في حدود العاشرة من سني في قريتنا في بلاد البقاع، [ ص: 6 ] رأيت روح القدس جبريل المنزل لهذا الروح، والمؤيد بروح القدس محمدا النبي المنزل عليه هذا الروح صلى الله عليه عليهما وسلم في صورتي شابين أمردين في أحسن صورة راكبين فرسين أخضرين في غاية الحسن متوجهين نحو المشرق، فأيدني الله ببركتهما "في تفسيره وتصنيفه "بروح منه كما يشهده من طالعه، وتدبره، والله ولي التوفيق، وسميته "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" ويناسب أن يسمى "فتح الرحمن في تناسب أجزاء القرآن"، وأنسب الأسماء له، هو ترجمان القرآن ومبدي مناسبات الفرقان" وعلم المناسبات الأهم، من مناسبات القرآن وغيره،علم تعرف منه علل الترتيب وموضوعه أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الترتيب، وثمرته الاطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ما له بما وراءه، وما أمامه من الارتباط والتعلق الذي هو كلحمة النسب [ ص: 7 ] فعلم مناسبات القرآن علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة؛ لأدائه إلى تحقيق مطالبة المعاني لما اقتضاه من الحال، وتتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها، ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها، فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة، وكانت نسبته من علم التفسير نسبة علم البيان من النحو، وطالعت على ذلك كتاب العلامة أبي جعفر أحمد بن إبراهيم الثقفي العاصمي الأندلسي "المعلم بالبرهان في ترتيب سور القرآن"، وهو لبيان مناسبة تعقيب السور بالسورة فقط لا يتعرض فيه للآيات، وسأذكر في كل سورة ما قاله فيها بلفظه كما ستراه - إن شاء الله تعالى - ثم ظفرت بكتاب الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المصري الشافعي سماه: "البرهان في علوم القرآن"، فرأيته ذكر فيه ما يعرف بمقدار كتابي هذا، فقال في النوع الثاني منه: "وهو في المناسبة قد قل اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقته"، وممن أكثر منه الإمام فخر الدين، وقال في تفسيره: "أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط"، وقال القاضي أبو بكر العربي [ ص: 8 ] في "سراج المريدين": "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة متسعة المعاني منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ثم فتح الله - عز وجل - لنا فيه، فلما لم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا، وبين الله، ورددناه إليه"، ونقل الزركشي عن سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام أنه قال ما حاصله: "المناسبة علم حسن لكن يشترط فيه حسن ارتباط الكلام، أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث فضلا عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة، في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى بعضه ببعض"، قال الزركشى: "وقال بعض مشايخنا المحققين: قد وهم من قال: لا يطلب [ ص: 9 ] للآي الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب: أنها حسب الوقائع تنزيلا، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة،ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر، الذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها تكملة لما قبلها أو مستقلة ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جم انتهى.
قلت: والشيخ المشار إليه، هو العارف ولي الله محمد بن أحمد الملوي المنفلوطي الشافعي [ ص: 10 ] ذكر ذلك في كلام مفرد على قوله تعالى: وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض
ونقل الإمام شمس الدين محمود الأصفهاني في تفسير قوله تعالى: آمن الرسول عن الإمام الرازي أنه قال: " ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة، وفى بدائع ترتيبها علم أن القرآن معجز بحسب فصاحة ألفاظه، وشرف معانيه فهو أيضا بسبب ترتيبه، ونظم آياته، ولعل الذين قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أنى رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار، ولعل الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:
والنجم تستصغر البصائر صورته فالذنب للطرف لا للنجم في الصغر
. انتهىوانتفعت في هذا الكتاب كثيرا بتفسير على وجه كلي للإمام الرباني بمهلتين مفتوحتين ومد، وتشديد اللام المغربي، نزيل أبي الحسين علي بن أحمد بن الحسن التجيبي الحرالي حماة من بلاد الشام، سماه: "مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل، وكتاب لعروة لهذا المفتاح يذكر فيه وجه إنزال الأحرف السبعة، وما تحصل به قراءتها، وكتاب التوشية والتوفية في فصول تتعلق بذلك، وقد ذكرت أكثر هذا الكتاب في تضاعيف كتابي هذا معزوا إليه في مواضع تليق به، ثم بعد وصولي إلى سورة الأنفال ملكت جزءا من تفسيره فيه من أوله إلى: إن الله اصطفى في آل عمران، فرأيته عديم النظر، وقد ذكرت فيه المناسبات، وقد ذكرت ما أعجبني منها وعزوته إليه - يسر الله الاطلاع على بقيته بحوله وقوته -، وبعد أن وصلت إلى سورة الكهف ذكر لي أن، تفسير ابن النقيب الحنفي، وهو في نحو ستين مجلدا يذكر فيه المناسبات، وفي خزانة جامع الحاكم كثير منه، فطلبت منه جزءا فرأيت الأمر كذلك بالنسبة إلى الآيات لا جملها وإلى القصص لا جميع آياتها، ومن نظر كتابي هذا مع غيره علم النسبة بينهما، والله الموفق، وبهذا العلم [ ص: 11 ] يرسخ الإيمان في القلب ويتمكن من اللب، وذلك أنه يكشف للإعجاز طريقين: أحدهما نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب، والثاني نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب، والأول أقرب تناولا، وأكثر تذوقا، فإن كل من سمع القرآن من ذكي وغبي يهتز لمعانيه، وتحصل له عند سماعه روعة بنشاط، ورهبة مع انبساط لا تحصل عند سماع غيره، وكلما دقق النظر في المعنى عظم عنده موقع الإعجاز ثم إذا عبر الفطن من ذلك إلى تأمل ربط كل جملة بما تلته، وما تلاها خفي عليه وجه ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض متنائية المقاصد، فظن أنها متنافرة فحصل له من القبض، والكرب أضعاف ما حصل له بالسماع من الهز والبسط ربما شككه في ذلك بكثير وزلزل إيمانه، وزحزح إيقانه، وربما وقف مكيس من أذكياء المخالفين عن الدخول [ ص: 12 ] في هذا الدين بعد ما وضحت لديه دلائله وبرزت له من حجالها دقائقه وجلائله لحكمة أرادها منزله، وأحكمها مجمله ومفصله، فإذا استعان بالله، وأدام الطريق لباب الفرج بإنعام التأمل، وإظهار العجز، والوثوق بأنه في الذروة من أحكام الربط كما كان في الأوج من حسن المعنى، واللفظ، لكونه كلام من جل عن شوائب النقص وحاز صفات الكمال إيمانا بالغيب، وتصديقا للرب قائلا ما قال الراسخون في العلم : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب فانفتح له ذلك الباب، ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار، رقص الفكر منه طربا، وشكروا لله استغرابا وعجبا، وشاط لعظمة ذلك جنانه فرسخ من غير مرية إيمانه، ورأى أن المقصود بالترتيب معان جليلة الوصف، بديعة الرصف عالية الأمر، عظيمة [ ص: 13 ] القدر، مباعدة لمعاني الكلام على أنها منها أخذت فسبحان من أنزله وأحكمه، وفصله، وغطاه، وجلاه، وبينه غاية البيان، وأخفاه، وبذلك أيضا يوقف على الحق من معاني آيات حار فيها المفسرون؛ لتضييع هذا الباب من غير ارتياب، منها قوله تعالى في سورة البقرة: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت الآيتين، ومنها قوله تعالى في سورة النساء: فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة مع قوله عقيبه: وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات وقوله تعالى في آخر هود: فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء الآية، إلى غير ذلك، وقوله تعالى في سبحان: ويسألونك عن الروح الآية، وقوله تعالى في السجدة: قل يتوفاكم ملك الموت وقوله تعالى في يس [ ص: 14 ] : أنهم إليهم لا يرجعون مما تراه، وينكشف لك غامض معناه، وبه يتبين لك أسرار القصص المكررات، وأن كل سورة أعيدت فيها قصة فلمعنى أدعى في تلك السورة استدل عليه في تلك القصة غير المعنى الذي سيقت له في السورة السابقة، ومن هنا اختلطت الألفاظ بحسب تلك الأغراض، وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم والإيجاز والتطويل مع أنها لا يخالف شيء من ذلك أصل المعنى الذي تكونت به القصة، وعلى قدر غموض تلك المناسبات، وكون وضوحها بعد انكشافها. ولقد شفاني بعض فضلاء العجم، وقد سألته عن شيء من ذلك، فرآه مشكلا، ثم قررت إليه وجه مناسبته، وسألته هل وضح له ؟ فقال يا سيدي! كلامك هذا يتسابق إلى الذهن، فلا تظنن أيها الناظر لكتابي هذا، أن المناسبات كانت كذلك قبل الكشف لقناعها [ ص: 15 ] والرفع لسورها فرب آية أقمت في تأملها شهورا منها: وإذ غدوت من أهلك في آل عمران، ومنها : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ومن أراد تصديق ذلك، فليتأمل شيئا من الآيات قبل أن ينظر ما قلته، ثم لينظره، يظهر له مقدار ما تعبت، وما حصل لي من قبل الله، ومن العون، سواء كان ظهر له وجه لذلك عند تأمله أو لا، وكذا إذا رأى ما ذكر غيري من مناسبات بعض الآيات، وبه أيضا يتضح أنه لا وقف تام في كتاب الله، وعلى آخر سورة : قل أعوذ برب الناس بل هي متصلة مع كونها آخر القرآن بالفاتحة، التي هي أوله كاتصالها بما قبلها، بل أشد، إلا أن يحمل نفيهم لتعلقه على اللفظ مطلقا ولو خفيا، وفي "الكافي" على [ ص: 16 ] اللفظ بقيد الجلاء، ولا تنكشف هذه الأغراض أتم الانكشاف إلا لمن خاض غمرة هذا الكتاب، وصار من أوله وآخره وأثنائه على ثقة وصواب، وما يذكر إلا أولو الألباب ، وقد ذكر الزركشي نحو أربع ورقات من مناسبات بعض الآيات، وإذا تأملتها عظم عندك ما في هذا البحر الزاخر من نفائس الجواهر، وبدائع السرائر، وقد أدرجت فيه مما ليس من بابه اليسير من غرائب التفسير مما لم أظفر به في كتاب مع أنه كالمثل يسير، والله أسأل أن يجعله موجبا لرضوانه، والفوز الدائم في أعلى جنانه