[ ص: 347 ] سورة الأعراف
لما قام على وجوبه من الدليل في الأنعام ، وتحذيره بقوارع الدارين ، وهذا أحسن مما كان ظهر لي وذكرته عند مقصودها إنذار من أعرض عما دعا إليه الكتاب في السورة الماضية من التوحيد والاجتماع على الخير والوفاء والوزن يومئذ الحق وأدل ما فيها على هذا المقصد أمر الأعراف فإن اعتقاده يتضمن الإشراف على الجنة والنار والوقوف على حقيقة ما فيها وما أعد لأهلها الداعي إلى امتثال كل خير واجتناب كل شر والاتعاظ بكل مرقق " بسم الله " المتردي برداء الكبر وإزار العظمة والجلال " الرحمن " الذي من رحمته انتقامه من أهل الكفر والضلال " الرحيم " الهادي لأهل الاصطفاء إلى لزوم طريق الوفاء المص .
لما ذكر - سبحانه - في آخر التي قبلها أنه أنزل إليهم كتابا مباركا ، وأمر باتباعه وعلل إنزاله وذكر ما استتبعه ذلك مما لا بد منه في منهاج البلاغة وميدان البراعة ، وكان من جملته أن أمر المدعوين به ليس إلا إليه ، إن شاء هداهم وإن شاء أضلهم واستمر فيما لا بد منه في تتميم ذلك إلى أن ختم السورة بما انعطف على ما افتتحت به ، فاشتد اعتناقه له [ ص: 348 ] حتى صارا كشيء واحد - أخذ يستدل على ما ختم به تلك من سرعة العقاب وعموم البر والثواب وما تقدمه ، فقال مخبرا عن مبتدإ تقديره : [هو] كتاب أي : عظيم أوضح الطريق المستقيم فلم يدع بها لبسا ولم يذر خيرا إلا أمر به ولا شرا إلا نهى عنه ، فإنزاله من عظيم رحمته; ثم وصفه بما أكد ما أشار إليه من رحمته بقوله : أنـزل إليك أي : وأنت أكرم الناس نفسا وأوسعهم صدرا وأجملهم قلبا وأعرقهم أصالة وأعرفهم باستعطاف المباعد واستجلاب المنافر المباغض ، وهذا شيء قد خصك به فرفعك على جميع الخلق درجات لا تحصى ومراتب لا حد لها فتستقصى .
ولما كان المقصود من البعثة أولا النذارة للرد عما هم عليه من الضلال ، وكانت مواجهة الناس بالإنذار شديدة على النفوس ، وكان الإقدام عليها من الصعوبة بمكان عظيم; قدم قوله مسببا عن تخصيصه بهذه الرحمة : فلا يكن [وعبر عن القلب بمسكنه الذي هو أوسع منه مبالغة في الأمر فقال] : في صدرك حرج أي : شيء من ضيق بهم أو خوف أو نحو ذلك منه على ما تعلق بـ (أنزل) من قوله : [ ص: 349 ] لتنذر به أي : نذرى لكل من بلغه أو للمخالفين من سرعة العقاب على نحو ما أوقع - سبحانه - بالقرون الماضية والأمم السابقة - كما أشار إليه آخر الأنعام ، وسيقص من أخبارهم من هذه السورة " و " لتنذر به " ذكرى " أي : عظيمة للمؤمنين أي : بالبشر والمواعظ والغفران والرحمة على ما أشار إليه ختام الأنعام ، وحذف المفعول يدل على عموم الرسالة لكل من أمكن إنذاره وتذكيره من العقلاء ، ويجوز أن تتعلق لام (لتنذر) بمعنى النهي ، أي : انف الحرج لكذا ، فإن من كان منشرح الصدر أقدم على ما يريد أو يحرج ، أي : لا يكن الحرج الواقع لأجل أن تنذر ، أي : لأجل إنذارك به ، والنهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - حول إلى الحرج مبالغة وأدبا ، ويجوز أن يكون التقدير : لتنذر به وتذكر به ، فإنه نذرى للكافرين وذكرى للمؤمنين ، والآية على كل تقدير من الاحتباك : إثباته (لتنذر) أولا ، دال على حذف (لتذكر) ثانيا ، وإثبات المؤمنين ثانيا دال على حذف المخالفين أولا ، فإن : نفوس بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في طلب اللذات الجسمانية والشهوات الحيوانية فبعثة الرسل في حقهم إنذار وتخويف ، ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية فبعثة الرسل في حقهم تذكير ؛ لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية وجبلتها الخلقية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الأجساد فيعرض لها [ ص: 350 ] نوع ذهول وغفلة ، فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصلت بها أنوار أرواح رسل الله تذكرت مركزها وأبصرت منشأها ، فاشتاقت إلى ما حصل هناك من الروح والريحان فطارت نحوهم كل مطار فتمحضت لديها تلك الأنوار. وقال النفوس على قسمين أبو حيان : واعتلاق هذه السورة بما قبلها هو أنه لما ذكر تعالى قوله : وهذا كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه واستطرد منه لما بعده إلى قوله في آخر السورة وهو الذي جعلكم خلائف الأرض وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم ، وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعية - ذكر ما يكون به التكاليف ، وهو الكتاب الإلهي ، وذكر الأمر باتباعه كما أمر في قوله : وهذا كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه انتهى . وقال شيخه الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما قال تعالى ابتداء بالاعتبار ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ثم قال تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ثم قال تعالى] : قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ثم قال تعالى [ ص: 351 ] ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وقال تعالى : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء وقال تعالى : يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فوقعت الإحالة في هذه الآي على وتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجريان ما جرى له بمن تقدمه من الرسل الاعتبار بالأمم السالفة وما كان منهم حين كذبوا أنبياءهم وهلاك تلك القرون بتكذيبهم وعتوهم قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فاستدعت الإحالة والتسلية بسط أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ، والإعلام بصبر الرسل - عليهم السلام - عليهم وتلطفهم في دعائهم ، ولم يقع في السور الأربع قبل سورة الأنعام مثل هذه الإحالة والتسلية وقد تكررت في سورة الأنعام كما تبين بعد انقضاء ما قصد من بيان طريق المتقين أخذا وتركا وحال من حاد عن سننهم ممن رامه أو قصده فلم يوفق له ولا أتم له أمله من الفرقتين : المستندة للسمع والمعتمدة للنظر ، فحاد الأولون بطارئ التغيير والتبديل ، وتنكب الآخرون بسوء التناول وقصور الأفهام وعلة حيد الفريقين السابقة الأزلية. فلما انقضى أمر هؤلاء وصرف الخطاب إلى تسليته - عليه السلام - وتثبيت فؤاده [ ص: 352 ] بذكر أحوال الأنبياء مع أممهم وأمر الخلق بالاعتبار بالأمم السالفة ، وقد كان قدم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذكر الأنبياء
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده بسط تعالى حال من وقعت الإحالة عليه ، واستوفى الكثير من قصصهم إلى آخر سورة هود إلى قوله - سبحانه - : وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك فتأمل بما افتتحت به السورة المقصودة بها قصص الأمم وبما اختتمت يلح لك ما أشرت إليه - والله أعلم بمراده وتأمل افتتاح سورة الأعراف بقوله : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين وختم القصص فيها بقوله : فاقصص القصص لعلهم يتفكرون بعد تعقيب قصص بني إسرائيل بقصة بلعام : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ثم قال : ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فتأمل هذا الإيماء بعد ذكر القصص ، وكيف ألحق من كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العرب وغيرهم بمن قص ذكره من المكذبين ، وتأمل افتتاح ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام وكلاهما ممن كفر على علم ، وفي ذلك أعظم موعظة ، قال الله تعالى إثر ذلك : من يهد الله فهو المهتدي فبدأ الاستجابة بنبيه - صلى الله عليه وسلم - بذكر ما أنعم عليه وعلى من استجاب له فقال تعالى : المص كتاب أنـزل إليك [ ص: 353 ] فأشار إلى نعمته بإنزال الكتاب الذي جعله هدى للمتقين ، وأشار هنا إلى ما يحمله عليه من التسلية وشرح الصدور بما جرى من العجائب والقصص مع كونه هدى ونورا ، فقال فلا يكن في صدرك حرج منه أي : أنه قد تضمن مما أحلناك عليه ما يرفع الحرج ويسلي النفوس لتنذر به كما أنذر من قبلك ممن نقص خبره من الرسل ، ولتستن في إنذارك ودعائك وصبرك سننهم ، وليتذكر المؤمنون. ثم أمر عباده بالاتباع لما أنزله ، فقال : اتبعوا ما أنـزل إليكم من ربكم فإن هلاك من نقص عليكم خبره من الأمم إنما كان لعدم الاتباع والركون إلى أوليائهم من شياطين الجن والإنس ، ثم أتبع ذلك بقصة آدم - عليه السلام - ليبين لعباده ما جرت سنته فيهم من تسلط الشياطين وكيده وأنه عدو لهم يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ووقع في قصة آدم هنا ما لم يقع في قصة البقرة من بسط ما أجمل هناك كتصريح اللعين بالحسد وتصور خيريته بخلقه من النار وطلبه الإنظار والتسلط على ذرية آدم والإذن له في ذلك ووعيده ووعيد متبعيه ثم أخذه في الوسوسة إلى آدم - عليه السلام - وحلفه له وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين وكل هذا مما أجمل في سورة البقرة ولم تتكرر قصة إلا وهذا شأنها ، أعني : أنها تفيد مهما تكررت ما لم يكن حصل منها أولا; ثم انجرت [ ص: 354 ] الآي إلى ابتداء قصة نوح - عليه السلام - واستمرت القصص إلى قصص بني إسرائيل ، فبسط هنا من حالهم وأخبارهم شبيه ما بسط في قصة آدم وما جرى من محنة إبليس ، وفصل هنا الكثير وذكر ما لم يذكر في البقرة حتى لم يتكرر بالحقيقة ولا التعرض لقصص طائفة معينة فقط ، ومن عجيب الحكمة أن الواقع في السورتين من كلتا القصتين مستقل شاف ، وإذا ضم بعض ذلك إلى بعض ارتفع إجماله ووضح كماله ، فتبارك من هذا كلامه ومن جعله حجة قاطعة وآية باهرة .
ولما أعقب تعالى قصصهم في البقرة بأمره نبيه والمؤمنين بالعفو والصفح فقال تعالى : فاعفوا واصفحوا أعقب تعالى أيضا هنا بقوله لنبيه - عليه الصلاة والسلام - خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وقد خرجنا عن المقصود فلنخرج إليه . انتهى .