ولما كان التقدير بعد هذا التمثيل والوصف والتشويق الذي يبهر العقول: [فمن الناس من] يسمع منك بغاية المحبة والإنصاف فيعليه الله بفهم ما يتلوه واعتقاده والعمل به واعتماده وهم المتقون الذين وعدوا الجنة، عطف عليه قوله تعالى: ومنهم من يستمع أي: بغاية جهده لعله يجد في المتلو مطعنا يشك به على الضعفاء، وبين تعالى بعدهم بقوله: إليك ولما أفرد المستمع نظرا إلى لفظ "من" إشارة إلى قلة المستمع جمع نظرا إلى معناه إشارة إلى كثرة المعرضين الجامدين المستهزئين من المستمعين منهم والسامعين فقال تعالى: حتى أي: واستمر [ ص: 226 ] إجهادهم لأنفسهم بالإصغاء حتى إذا خرجوا أي المستمعون والسامعون جميعا من عندك قالوا أي الفريقان عمى وتعاميا واستهزاء. ولما كان مجرد حصول العلم النافع مسعدا، أشار إلى تعظيمه ببنائه لما لم يسم فاعله فقال تعالى: للذين أوتوا العلم أي: بسبب تهيئة الله لهم بما آتاهم من صفاء الأفهام لتجردهم عن النفوس والحظوظ وانقيادهم لما تدعو إليه الفطرة الأولى: ماذا قال أي النبي صلى الله عليه وسلم آنفا أي: قبل افتراقنا وخروجنا عنه من ساعة - أي أول وقت - تقرب منه، من أنفة الصلاة- بالتحريك، وهو ابتداؤها وأولها، قال أبو حيان : حال، أي مبتدئا، أي ما القول [الذي] ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه. ورد كونه ظرفا بأنه تفسير معنى، وأنه لا يعلم أحدا من النحاة عده في الظروف. [و] قال [ ]: ائتنفت الأمر: ابتدأته، وأنف الشيء أوله، قال البغوي : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا مقاتل رضي الله عنه استهزاء: ماذا قال عبد الله بن مسعود محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال رضي الله عنه: وقد سئلت فيمن سئل. ابن عباس
ولما دل هذا من المصغي ومن المعرض على غاية الجمود الدال [ ص: 227 ] على غاية الشقاء، أنتج قوله: أولئك أي: خاصة هؤلاء البعداء من الفهم ومن كل خير الذين طبع الله أي: الملك الأعظم الذي لا تناهي لعظمه جل وعلا: على قلوبهم أي: فلم يؤمنوا ولم يفهموا فهم الانتفاع؛ لأن مثل هذا الجمود لا يكون إلا بذلك. ولما كان التقدير: إنهم ضلوا حتى صاروا كالبهائم، عطف عليه ما هو من أفعال البهائم فقال: واتبعوا أي: بغاية جهدهم أهواءهم أي: مجانبين لوازع العقل وناهي المروءة، فلذلك هم يتهاونون بأعظم الكلام ويقبلون على جمع الحطام، فهم أهل النار المشار إليهم قبل آية "مثل الجنة" بأنهم زين لهم سوء أعمالهم.