ولما كان التقدير: "فلقد أعقبنا كلا من أولئك الأحزاب؛ لما حق عليهم العقاب؛ بنوع من الأنواع؛ لا شك فيه عند أحد؛ ولا ارتياب"؛ عطف عليه قوله: وما ؛ ولما كانت قريش في شدة العناد؛ والتصميم على الكفر؛ والاستكبار عن الإذعان للحق؛ وتعاطي جميع أسباب العذاب؛ كأنهم ينتظرونه؛ ويستعجلونه؛ عبر بما يدل على الانتظار؛ ولما كانوا لمعرفتهم بصدق الآتي إليهم؛ والقطع بصحة ما يقول؛ كأنهم يرون العذاب ولا يرجعون؛ جرد فعل الانتظار؛ فقال: ينظر ؛ وحقرهم بقوله: هؤلاء ؛ أي: الذين أدبروا عنك في عزة وشقاق؛ وغاية جهدهم أن يكونوا من الأحزاب؛ الذين تحزبوا على جندنا؛ فأخذناهم بما هو مشهور من وقائعنا؛ ومعروف من أيامنا؛ بأصناف العذاب؛ ولم تغن عنهم كثرتهم؛ ولا قوتهم شيئا؛ ولم يضر جندنا ضعفهم؛ ولا قلتهم؛ إلا صيحة ؛ وحقر أمرهم بالإشارة إلى أن أقل شيء من عذابه كاف في إهلاكهم؛ فقال واحدة ؛ ولما كان السياق للتهديد؛ فعلم به أن الوصف بالوحدة للتعظيم؛ بينه بقوله: ما لها ؛ أي: الصيحة؛ من فواق ؛ أي: مزيد أي شيء من جنسها يكون فوقها؛ يقال: "فاق أصحابه فوقا؛ وفواقا": علاهم؛ وقرأه [ ص: 346 ] بالضم؛ فيكون كناية عن سرعة الهلاك بها؛ من غير تأخر أصلا؛ فإن "الفواق"؛ كـ "غراب": ما يأخذ المحتضر عند النزاع؛ والمعنى أنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى زيادة على الصيحة الموصوفة؛ لأنه لا صيحة فوقها؛ ففي ذلك تعظيم أقل شيء من عذابه؛ وتحقير أعلى شيء من أمرهم؛ ويجوز أن تكون القراءتان من "فواق الحلب"؛ قال حمزة الصغاني: و"الفواق"؛ و"الفواق"؛ أي بالضم؛ والفتح: ما بين الحلبتين من الوقت؛ لأنها تحلب ثم تترك سريعة يرضعها الفصيل لتدر؛ قال في القاموس: أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع؛ فالمعنى: ما لها من رجوع؛ كما يرجع اللبن في الضرع عن الفواق؛ وكما يرجع المريض بالإفاقة من المرض إلى الصحة؛ أو: ما لها من انفصال؛ وافتراق؛ بقدر ما يتنفس فيه أحد أقل تنفس؛ وأقصره زمنا؛ كما هي عادة الأصوات المألوفة؛ يكون فيها ترجيع يوجب في الصوت تقطعا يصير به وقعه ضعيفا فاترا؛ واعتماده على مخرجه رخوا؛ بل هي صماء؛ على نمط واحد؛ لا تفجأ أحدا إلا مات؛ إلا من ثبته الله (تعالى) ؛ ويجوز أن يكون من فواق المحتضر؛ أي أنه ليس فيها مقدمة للموت غير قرع الصوت؛ وهذا موافق لقولهم: ما لها [ ص: 347 ] من نظرة وراحة؛ والله أعلم.