ولما كان الأنبياء - عليهم السلام - أشفق الناس؛ وأنصحهم؛ أحب أن يرى ما عنده؛ فإن كان على ما يحب سر؛ وثبته؛ وإلا سعى في جعله على ما يحب؛ فيلقى البلاء وهو أهون عليه؛ ويكون ذلك أعظم لأجره؛ لتمام انقياده؛ ولتكون المشاورة سنة؛ فإنه سبب عن ذلك قوله: "ما ندم من استشار"؛ فانظر ؛ بعين بصيرتك؛ ماذا ؛ أي: ما الذي؛ ترى ؛ أي: في هذه الرؤيا؛ فهو اختبار لصبره؛ لا مؤامرة له؛ قال ؛ تصديقا لثناء الله عليه بالحلم؛ يا أبت ؛ تأدبا معه؛ بما دل على التعظيم؛ والتوقير؛ افعل ما تؤمر ؛ أي: كل شيء وقع لك به أمر من الله (تعالى) ويتجدد لك به أمر منه - سبحانه -؛ لأني لا أتهمك في شفقتك؛ وحسن نظرك؛ ولا أتهم الله في قضائه؛ والقصة دليل على وقوع الأمر؛ بالممتنع لغيره؛ ولأكثر الأوامر منه؛ وقد تقدم ذلك في "البقرة"؛ عند: "أأنذرتهم أم لم تنذرهم". [ ص: 265 ] ولما علم طاعته؛ تشوف السامع إلى استسلامه وصبره؛ فاستأنف قوله: ستجدني ؛ أي: بوعد جازم؛ لا تردد فيه؛ صادق؛ كما أخبر الله (تعالى) عنه؛ لا خلف فيه؛ وكان صادق الوعد.
ولما كان من أخلاق الكمل عدم القطع في المستقبلات؛ لما يعلمون من قدرة الله (تعالى) على نقض العزائم؛ بالحيلولة بين المرء وقلبه؛ قال: إن شاء الله ؛ أي: الذي اختص بالإحاطة بصفات الكمال; وأكد وعده بهذا الأمر؛ الذي لا يكاد يصدق مثله؛ بقوله: من الصابرين ؛ أي: العريقين في الصبر؛ البالغين فيه حد النهاية؛ وهو من أعظم ما أريد بقوله: كان صادق الوعد
ولو بيد الحبيب سقيت سما ... لكان السم من يده يطيب
وجعل هذا الأمر العظيم في المنام دلالة على صدق أحوال الأنبياء؛ نوما ويقظة؛ وصدق عزائمهم؛ وانقيادهم لجميع الأوامر في جميع الأحوال؛ وروي أن الشيطان وسوس له في ذبحه؛ فعرفه؛ فرماه بسبع حصيات؛ فصار ذلك شريعة في الجمار؛ ومن ألطف ما في ذلك أنهم لما كانوا في نهاية التجرد عن علائق الشواغل جعلت أفعالهم شعائر؛ وشرائع لعبادة الحج؛ التي روحها التجرد للوفود إلى الله (تعالى).