قلت لما برزا من قنة ... كذب العير وإن كان برح
يقول: كذب إذ طمع أن ينجو؛ وإن كان قد برح؛ وصعب [ ص: 214 ] على إمكان طعنه؛ وتطير من تيمن به بسلامته وخلاصه من الطاعن؛ وتطير من تيمن بالسانح بأنه يأتي من ميامنك إلى مياسرك؛ فيمكنك من طعنه؛ ومن تشاءم به تطير بقلة سلامته؛ ووقوعه فيما يكره؛ ومن الطير الجابه؛ وهو الذي يلقاك مواجهة؛ ومنه الناطح أيضا؛ ومنه القعيد؛ وهو الذي يأتيك من خلفك؛ انتهى ما وقفت عليه من كلام أهل اللغة في ذلك؛ فافهم؛ والظاهر كما تفهمه الآية أن العرب مطبقة على أن ما أتى عن اليمين كان مباركا؛ سواء كان أتى من قدام؛ مواجها لك؛ ومر إلى جهة الخلف؛ فوليتك ميامنه؛ أو أتى من الجانب الأيمن؛ سواء كان ابتداء إتيانه من خلف؛ أو لا؛ فمر من قدامك عرضا إلى جهة اليسار؛ فوليتك في الحالتين مياسره؛ وما أتى من جهة اليسار على ضد ذلك كان مشؤوما؛ وكأنهم اختلفوا في التسمية؛ فأكثرهم سمى الأول "سانحا"؛ من "السنح"؛ بالضم؛ وهو اليمن؛ والبركة؛ وهو من قولهم: "سنح لي رأي"؛ تيسر؛ لشهرة معنى اليمن عندهم في ذلك؛ والثاني "بارحا"؛ من "البرح"؛ وهو الشدة؛ والشر؛ لشهرة هذا المعنى عندهم في مادة "برح"؛ وبعضهم عكس؛ فسمى الأول "بارحا"؛ من "البرحة"؛ وهي الناقة تكون من خيار الإبل؛ لشهرة ذلك عندهم؛ وسمى الثاني "سانحا"؛ من قولهم: "سنحه عما أراد"؛ صرفه؛ و"سنح بالرجل؛ وعليه": أخرجه؛ [ ص: 215 ] أو أصابه بشر؛ فمن الاختلاف في التسمية أتى الخلاف؛ ولذلك عبر - سبحانه وتعالى - بالمعنى؛ دون الاسم؛ لأن كلامه - سبحانه - لا يخص قوما دون غيرهم؛ وأما التعليل بإمكان الطعن؛ والرمي؛ فلا معنى له؛ لأن الإنسان ينفتل عن هيئة وقوفه بأدنى حركة؛ فينعكس بالنسبة إليه أمر المياسر؛ والميامن؛ ويتغير حال الطعن والرمي؛ هذا إذا سلم أن الطعن والرمي يعسر من جهة المياسر؛ على أنه غير مسلم ؛ ولو كان المعنى دائرا عليه؛ لما اختلف فيه؛ إلا بالنسبة إلى الأعسر؛ وغيره؛ لا بالنسبة إلى أهل العالية؛ وغيرهم؛ وأما البيت الذي استدل به؛ فيمكن حمله على أن قائله كان في حاجة له؛ لا بد له منها؛ فرأى البارح؛ فلم يتطير منه؛ ولج في أمره ذلك تكذيبا له؛ فيما دل عليه عند العرب؛ وأما الجابه وغيره فأسماء أخر لبعض أنواع كل من السانح؛ والبارح؛ والله أعلم؛ وقال أبو حاتم ؛ أحمد بن حمدان الرازي؛ في كتابه "الزينة": العيافة؛ والقيافة؛ والزجر؛ نوع من الكهانة؛ إلا أنه أخف في الكراهة؛ وذلك أن الكاهن كان بمنزلة الحاكم ؛ وكان من الكهان من يعبد كما يعبد الصنم؛ وكانوا سدنة الأصنام؛ قلت: والكاهن في اللغة: من يقضي بالغيب؛ وذلك هو غاية العلم؛ فهو وصف يدل على التوغل في العلم؛ انتهى؛ قال : وسمعت بعض أهل الأدب قال: "الكاهن"؛ بالعبرانية: العالم؛ وكانوا يسمون أبو حاتم هارون - عليه السلام - كهنا ربا؛ معناه عالم الرب؛ ثم قال: [ ص: 216 ] إن الكهانة؛ والسحر؛ كانا عند المتقدمين نوعا من العلم؛ فكان الساحر؛ والكاهن؛ اسمين محمودين؛ فلما جاء الله بالإسلام؛ صار هذان الاسمان مذمومين عند المسلمين؛ لما كشف لهم ما في ذلك من الشر؛ ثم قال: فأما العائف؛ والقائف؛ والزاجر؛ فلم يكن سبيلهم كذلك - يعني كالكاهن؛ في أنه ربما عبد -؛ قال: وإنما كره لأنه كان يخبر بشيء غائب؛ فكره كما كره أمر النجوم؛ توقيا أن يكون مثل الدعوى في علم الغيب؛ والعائف هو الذي يعيف الطير؛ ويزجرها؛ ويعتبر بأسمائها؛ وأصواتها؛ ومساقطها؛ ومجاريها؛ فإذا سمع صوت طائر؛ أو جرى من يمينه إلى شماله؛ أو من شماله إلى يمينه؛ قضى في ذلك بخير؛ أو بشر؛ في الأمر الذي يريد أن يفعله؛ فإذا قضى فيه بشر تجنب ذلك الأمر؛ يقال: "عاف؛ يعيف"؛ إذا فعل ذلك؛ ومعنى "عاف"؛ أي: امتنع؛ وتجنب؛ يقال: "عافت الإبل الماء"؛ إذا لم تشرب؛ وكذلك يقال في غير الإبل؛ و"الزاجر" أيضا: هو مثل "العائف"؛ يقال: يزجر الطير زجرا؛ وذلك أنه ينظر إلى الطير فيقضي فيها مثل العائف؛ فإذا رأى شيئا كرهه رجع عن أمر يريد أن يشرع فيه؛ أو حاجة يريد قضاءها؛ و"الزاجر"؛ معناه: الناهي؛ فكأن الطير قد زجره عن ذلك الفعل؛ أو أن من عاف له زجره عن ذلك؛ ويكون معنى الزجر أيضا أنه إذا رأى منها شيئا [ ص: 217 ] صاح بها وطردها؛ فكان طرده إياها زجرا لها؛ ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: قلت: إنهم كانوا إذا لم يروا سانحا؛ ولا بارحا نفروا الطير لينظروا إلى أي جهة تطير؛ والله أعلم؛ وقال "أقروا الطير على مكناتها"؛ : والأصل في هذا أنهم كانوا يزجرون الطير؛ ثم كانوا يزجرون الظبي؛ والثعلب؛ وبصوت الإنسان يستدلون بلفظه؛ وبغير ذلك؛ ثم نسبت كلها إلى الطير؛ فقيل: يتطير؛ أي يستدل بالطير؛ وروي عن أبو حاتم الأصعمي قال: سألت ابن عون : ما الفأل؟ فقال: هو أن تكون مريضا فتسمع: يا سالم ؛ وتكون باغيا فتسمع يا واجد؛ قال: وكان ابن سيرين يكره الطيرة؛ ويحب الفأل؛ وفي الحديث:
و"الفأل"؛ مأخوذ من "الفيال"؛ وهي لعبة يتقامرون بها؛ كانوا يأخذون الدراهم فيخلطونها بالتراب؛ ثم يجمعونه طويلا؛ ثم يقسمونه بنصفين؛ ويتقارعون عليه؛ فمن أصابه القرعة اختار من القسمين واحدا؛ فلما كان المفايل يختار منهما ما أحب؛ سمي "الفأل"؛ لأنه يتفاءل بما يحبه؛ وكان هذا في "أصدق الطيرة الفأل"؛ العرب كثيرا؛ وأكثره في بني أسد؛ قال : [ ص: 218 ] أخبرني الأصمعي سعد بن نصر أن نفرا من الجن تذاكروا عيافة بني أسد؛ فأتوهم؛ فقالوا: ضلت لنا ناقة؛ فلو أرسلتم معنا من يعيف؛ فقالوا لغليم لهم: انطلق معهم؛ فاستردفه أحدهم؛ ثم ساروا فلقيتهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها؛ فاقشعر الغليم؛ فبكى؛ فقالوا له: ما لك؟ فقال: كسرت جناحا؛ ورفعت جناحا؛ وحلفت بالله صراحا؛ ما أنت بإنسي؛ ولا تبغي لقاحا؛ وكانوا يسمون الذي يجيء عن يمينك فيأخذ إلى شمالك "سانحا"؛ والذي يجيء عن يسارك فيأخذ على يمينك "بارحا"؛ والذي يستقبلك "ناطحا"؛ و"كافحا"؛ والذي يجيء من خلفك "قعيدا"؛ والذي يعرض في كل وجه "متيحا"؛ فمنهم من كان يتشاءم بالبارح؛ ويتيمن بالسانح؛ ومنهم من كان يتيمن بالبارح؛ ويتشاءم بالسانح؛ قال زهير :
جرت سنحا فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللقاء
وقال : الكميت
ولا السانحات البارحات عشية ... أمر سليم القرن أم مر أعضب؟
وكانوا يزجرون بعضب القرن وصحته؛ والأعضب الذي له قرن واحد؛ وأما القائف فهو الذي يتبع الآثار ويعرفها؛ ويعرف شبه الرجل في [ ص: 219 ] ولده؛ ويروى عن عوسجة بن معقب القائف: قال: كنا تسرق نخلنا فنعرف آثارهم؛ فركبوا الحمر فعرفنا بمس أيديهم؛ والعذوق؛ فكأن القائف سمي قائفا لأنه يقفو الأثر؛ يقال: "قفا الأثر"؛ و"قاف الأثر"؛ أي: تبعه؛ قال : عن الأصمعي أبي طرفة الهذلي قال: رأى قائفان أثر بعير؛ وهما منصرفان من عرفة؛ بعد الناس بيوم؛ أو يومين؛ فقال أحدهما: ناقة؛ وقال الآخر: جمل؛ فاتبعاه؛ فإذا هما به؛ فأطافا به فإذا هو خنثى؛ ويقال للرجل إذا كان فطنا؛ عارفا بالأمور: هو عائف؛ وقائف؛ وكان قوم من العرب لا يتطيرون؛ ولا يتهيبون الطيرة؛ ويفتخرون بتركه؛ ويعدون تركه شجاعة وإقداما؛ قال بعض شعرائهم:
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
وقال آخر:
ولست بهياب إذا اشتد رحله ... يقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدما ... إذا صد عن تلك الهناة الخثارم
وهو مسلم له في القيافة؛ وأما غيرها فمنازع فيه؛ ثم قال: فأكثر هذه الأشياء أصولها من الأنبياء - عليهم السلام -؛ فإذا استعملت بعد النسخ؛ وبعدما جاء فيها النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كانت حراما؛ تدعو إلى الكفر؛ والتعطيل؛ وغير ذلك من أنواع الفساد؛ ثم قال: وما كان من أمر مشركي العرب؛ فقد درس دروسا لا يعرف؛ ولا يحتاج إلى ذكر كيفيته؛ إذ كان متلاشيا؛ لا أثر له؛ [ ص: 221 ] ولكن لا يستغني الفقهاء والعلماء عن معرفته؛ إذ كان له في القرآن ذكر؛ وإذ كان واجبا على العلماء تعلم ما في القرآن؛ على حسب طاقتهم؛ والجهل به نقص عليهم؛ والله أعلم بالصواب.