ولما كان المقصود من هذا الكتاب الأعظم بيان الأصول الأربعة؛ التوحيد؛ والنبوة؛ والمعاد؛ وإثبات القضاء والقدر؛ ودل - سبحانه - بهذه المذكورات على وجوده؛ وكمال علمه؛ وتمام قدرته على الأفعال الهائلة؛ وبديع حكمته؛ اللازم منه إثبات وحدانيته؛ تفصيلا لبعض إجمال أوليس الذي خلق السماوات والأرض فكان ما دونها من الأفعال أولى؛ سبب عن ذلك - لإثبات الحشر؛ الذي أخبر به هذا القرآن؛ الذي حرسه عن تلبيس الجان بزينة الكواكب؛ التي أنشأ منها الشهب الثواقب - قوله - تهكما بهم -: فاستفتهم ؛ أي: سلهم أن يتفتوا بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث؛ وأصله من "الفتوة"؛ وهي الكرم؛ أهم أشد ؛ أي: أقوى؛ وأشق؛ وأصعب خلقا ؛ أي: من جهة إحكام الصنعة؛ وقوتها؛ وعظمها؛ أم من ؛ ولما كان المراد الإعلام بأنه لا شيء من الموجودات إلا وهو خلقه - سبحانه -؛ عبر بما يدل على ذلك؛ دون ذكر "نا"؛ وليكون أعم؛ وحذف المفعول لأنه مفهوم؛ ولئلا يلبس إذا ذكر ضمير المستفتين؛ [ ص: 200 ] فقال: خلقنا ؛ أي: من هذه الأشياء التي عددناها؛ من الحي؛ وغيره من الجن؛ الذين أعطيناهم قدرة التوصل إلى الفلك؛ وغيرهم؛ وعبر بـ "من"؛ تغليبا للعاقل من الملائكة وغيرهم؛ مما بين السماوات والأرض.
ولما كان الجواب قطعا أن هذه المخلوقات أشد خلقا منهم؛ وأنهم هم من أضعف الخلائق خلقا؛ قال - دالا على إرادة التهكم بهم في السؤال؛ مؤكدا؛ إشارة إلى أن إنكارهم البعث؛ لاستبعادهم تمييز التراب من التراب؛ يلزم منه إنكار ابتداء الخلق على هذا الوجه -: إنا خلقناهم ؛ أي: على عظمتنا؛ من طين ؛ أي: تراب رخو مهين؛ لازب ؛ أي: شديد اختلاط بعضه ببعض؛ فالتصق؛ وضمر؛ وتضايق؛ وتلازم بعضه لبعض؛ وقل؛ واشتد؛ ودخل بعض أجزائه في بعض؛ وصلب؛ وثبت؛ فصار تمييز بعضه من بعض أصعب من تمييز بعض التراب المنتثر من بعض؛ قال ابن الجوزي : قال - رضي الله عنهما -: "هو الطين الحر الجيد اللزق". ابن عباس
وإنما كانوا من طين لأن أباهم آدم كان منه؛ من غير أب؛ ولا أم؛ فصاروا بهذا التقدير بعض الطين الذي هو بعض خلقه؛ الذي عدده قبل ذلك - سبحانه وتعالى -؛ ومن المعلوم أن حال الطين مباعدة لحالهم؛ ولكنهم كانوا بقدرته - سبحانه - الذاتية؛ التي لا يمتنع عليها مقدور؛ ولا يعجزها مأمور؛ فدل ابتداء خلقهم؛ وخلق ما هو أشد منهم؛ وأعظم؛ [ ص: 201 ] على القدرة على إعادتهم قطعا؛ بل بطريق الأولى من غير وجه؛ وحسن هذا الاستفتاء؛ كل الحسن؛ ختم الكلام قبله بمن بلغوا السماء تكبرا وعلوا؛ وهموا بما لم ينالوا؛ تجبرا وعلوا؛ وسلط عليهم ما يردهم مقهورين؛ مبعدين؛ مدحورين؛ واستثنى منهم من "خطف"؛ ليعلم أنه غير محال ما تعلقت به منهم الآمال؛ هذا مع ذكره في خلقهم من الطين اللازب؛ الذي من شأنه الرسوب - لثقله -؛ والسفول؛ كما أن من شأن من ختم بهم ما قبله العلو - لخفتهم - والصعود.