ولما كان كل [من] آمن بائعا نفسه وماله لله، لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وكان بعض الراسخين في الإيمان لم يعط الإيمان حقه في القتال في نفسه وماله كما فعل رضي الله عنه، أما في ماله فبالخروج عنه كله، وأما في نفسه فيما يقحمها من الأهوال، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له في بعض المواطن: أبو بكر "الزم مكانك وأمتعنا بنفسك" ، رضي الله عنهما أنهما من الدين بمنزلة السمع والبصر" ولعمر وكان "ويقول له رضي الله عنه في ليلة أبو بكر الغار يذكر الطلب فيتأخر، والرصد فيتقدم، وما عن الجوانب فيصير إليها، ومنهم من وفى هذه الغزوة وما قبلها فأراد الله التنويه بذكرهم والثناء عليهم توفية لما يفضل به في حقهم، وترغيبا لغيرهم فأظهر ولم يضمر لئلا يتقيد بالمذكورين سابقا فيخص [ ص: 327 ] هذه الغزوة فقال: من المؤمنين أي الكمل رجال أي في غاية العظمة عندنا، ثم وصفهم بقوله: صدقوا
ولما كان العهد عند ذوي الهمم العلية، والأخلاق الزكية، لشدة ذكرهم [له] ومحافظتهم على الوفاء به، وتصوره لهم حتى كأنه رجل عظيم قائم تجاههم، يتقاضاهم الصدق، عدى الفعل إليه فقال: ما عاهدوا الله المحيط علما وقدرة وجلالا وعظمة عليه أي من بيع أنفسهم وأموالهم له بدخولهم في هذا الدين الذي بنى على ذلك فوفوا به أتم وفاء، وفي هذا إشارة إلى أبي لبابة [بن] المنذر رضي الله عنه، وكان من أكابر المؤمنين الراسخين في صفة الإيمان حيث زل في إشارته إلى بني قريظة بأن المراد بهم الذبح، كما تقدم في الأنفال في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم فذهب من حينه وربط نفسه تصديقا لصدقه في سارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة.
ولما ذكر الصادقين، وكان ربما فهم أن الصدق لا يكون إلا بالقتل، قسمهم [قسمين] مشيرا إلى خلاف ذلك بقوله: فمنهم من قضى أي أعطى نحبه [أي نذره] في معاهدته، أنه ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويموت دونه، وفرغ من [ ص: 328 ] ذلك وخرج من عهدته بأن قتل شهيدا، فلم يبق عليه نذر كحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وسعد بن الربيع وأنس بن النضر الذي غاب عن غزوة بدر فقال: غبت عن أول قتال قاتل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله قتالا ليرين الله ما أصنع، فلما انهزم [من انهزم] في غزوة أحد قال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ومما صنع هؤلاء - يعني المنهزمين من المسلمين. وقاتل حتى قتل بعد بضع وثمانين جراحة من ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وروى عن [البخاري] رضي الله عنه قال: "نرى هذه الآيات نزلت في أنس بن مالك أنس بن النضر من المؤمنين رجال " - انتهى، وغير هؤلاء ممن قتل قبل هذا في غزوة أحد وغيرها، ممن جرح في هذه الغزوة وحكم في وسعد بن معاذ بني قريظة بالقتل والسبي، ولم يرع لهم حلفهم لقومه، ولا أطاع قومه في الإشارة عليه باستبقائهم كما استبقى عبد الله بن أبي المنافق بني قينقاع ولا أخذته بهم رأفة غضبا لله ولرسوله رضي الله عنه، وممن لم يقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحد العشرة [ ص: 329 ] رضي الله عنهم ثبت في طلحة بن عبيد الله أحد وفعل ما لم يفعله غيره، لزم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفارقه، وذب عنه ووقاه بيده حتى شلت إصبعه فشهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه ممن قضى نحبه، فالمراد بالنحب هنا العهد الذي هو كالنذر المفضي إلى الموت، وأصل النحب الاجتهاد في العمل، ومن هنا استعمل في النذر لأنه الحامل على ذلك ومنهم أي الصادقين من ينتظر قضاء النحب إما بالنصرة، أو الموت على الشهادة، أو مطلق المتابعة الكاملة.
ولما كان المنافقون ينكرون أن يكون أحد صادقا فيما يظهر من الإيمان، أكد قوله تعريضا بهم: وما بدلوا تبديلا أي وما أوقعوا شيئا من تبديل بفترة أو توان، فهذا تصريح بمدح أهل الصدق، وتلويح بذم أهل النفاق عكس ما تقدم، روى [عن البخاري رضي الله عنه قال: لما نسخنا الصحف بالمصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيرا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها، لم أجدها مع أحد إلا مع زيد بن ثابت] خزيمة الأنصاري - رضي الله عنه - الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين من المؤمنين رجال صدقوا [ ص: 330 ] ما عاهدوا الله عليه وقوله: "نسخنا الصحف" التي كانت عند رضي الله عنها بعد موت حفصة رضي الله عنه "في المصاحف" التي أمر بها عمر رضي الله عنه، وقوله: "لم أجدها" أي مكتوبة بدليل حفظه لها، وهذا يدل على أنه لما نسخ المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه لم يقتنعوا بالصحف. بل ضموا إليها ما هو مفرق عند الناس مما كتب بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحضرته كما فعلوا حين جمعوا الصحف على عهد عثمان رضي الله عنهم [أجمعين]. أبي بكر