ولما أخبر تعالى عنهم بهذه الأحوال التي هي غاية [في] الدناءة، أقبل عليهم إقبالا يدلهم على تناهي الغضب، فقال مؤكدا محققا لأجل إنكارهم: لقد كان لكم أيها الناس كافة الذين المنافقون في غمارهم في رسول الله الذي جاء عنه لإنقاذكم من كل ما يسوءكم، [ ص: 323 ] وجلاله من جلاله المحيط بكل جلال، وكماله من كماله العالي على كل كمال، وهو أشرف الخلائق، فرضيتم مخالطة الأجلاف بدل الكون معه أسوة أي قدوة عظيمة - على قراءة بضم الهمزة، وفي أدنى المراتب - على قراءة الباقين بالكسر، تساوون أنفسكم به وهو أعلى الناس قدرا يجب على كل أحد أن يفدي ظفره الشريف ولو بعينه فضلا عن أن يسوي نفسه بنفسه، فيكون معه في كل أمر يكون فيه، لا يختلف عنه أصلا عاصم حسنة على قراءة الجماعة بمطلق الصبر في البأساء وأحسنية - على قراءة بالصبر على الجراح في نفسه والإصابة في عمه وأعز أهله وجميع ما [كان] يفعل في مقاساة الشدائد، ولقاء الأقران، والنصيحة لله ولنفسه وللمؤمنين، وعبر عنه بوصف الرسالة لأنه حظ الخلق منه ليقتدوا بأفعاله وأقواله، ويتخلقوا بأخلاقه وأحواله، ونبه على أن الذي يحمل على التآسي به صلى الله عليه وسلم إنما هو الصدق في الإيمان ولا سيما الإيمان بالقيامة، وأن الموجب للرضا جبلة له عاصم يرجو الله أي في جبلته أنه يجدد الرجاء مستمرا للذي لا عظيم في الحقيقة سواه فيأمل إسعاده ويخشى إبعاده [ ص: 324 ] واليوم الآخر الذي لا بد من إيجاده ومجازاة الخلائق فيه بإعمالهم، فمن كان كذلك حمله رجاؤه على كل خير، ومنعه من كل شر، فإنه يوم التغابن، لأن الحياة فيه دائمة، والكسر فيه لا يجبر.
ولما عبر بالمضارع المقتضي لدوام التجدد اللازم منه دوام الاتصاف الناشئ عن المراقبة لأنه في جبلته، أنتج أن يقال: فأسى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء تصديقا لما في جبلته من الرجاء، فعطف عليه، أو على "كان" المقتضية للرسوخ قوله: وذكر الله الذي له صفات الكمال، وقيده بقوله: كثيرا تحقيقا لما ذكر من معنى الرجاء الذي به الفلاح، وأن المراد منه الدائم في حالي السراء والضراء.