ولما نفى أن يكون له شريك أو وزير في الخلق، ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه في ستة أيام من عالم الأرواح والأمر، فقال مستأنفا مفسرا للمراد بالاستواء: يدبر الأمر أي كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه، كما نظر في إقباله لإحكام فواتحه وعوازمه، لا يكل شيئا منه إلى شيء من خلقه، قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن استواءه على العرش بمعنى إظهار القدرة، والعرش مظهر التدبير لا قعر المدبر.
ولما كان المقصود للعرب إنما [هو] تدبير ما تمكن مشاهدتهم له من العالم قال مفردا: من السماء أي فينزل ذلك [الأمر] الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في أدبار ما يعلمه إلى الأرض غير متعرض إلى ما فوق ذلك، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم.
ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد، فكان بذلك مستبعدا، أشار إلى ذلك بقوله: ثم يعرج أي يصعد [ ص: 233 ] الأمر الواحد - وهو من الاستخدام الحسن - إليه، أي بصعود الملك إلى الله، أي إلى المواضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه كقوله تعالى: إني ذاهب إلى ربي ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ونحو ذلك، أو إلى الموضع الذي ابتدأ منه نزول التدبير وهو السماء وكأنه صاعد في معارج، وهي الدرج على ما تتعارفون بينكم، في أسرع من لمح البصر في يوم من أيام الدنيا كان مقداره لو كان الصاعد واحدا منكم على ما تعهدون ألف سنة مما تعدون من سنيكم التي تعهدون، والذي دل على هذا التقدير شيء من العرف وشيء من اللفظ، أما اللفظ فالتعبير ب "كان" مع انتظام الكلام بدونها لو أريد غير ذلك، وأما العرف [فهو] أن الإنسان المتمكن يبني البيت العظيم العالي في سنة مثلا، فإذا فرغه صعد إليه خادمه إلى أعلاه في أقل من درجتين من درج الرمل، فلا تكون نسبة ذلك من زمن بنائه إلا جزءا لا يعد، هذا وهو خلق محتاج فما ظنك بمن خلق الخلق في ستة أيام وهو غني عن كل شيء قادر على كل شيء وظاهر العبارة أن هذا التقدير بالألف لما بين السماء والأرض بناء على [أن] البداية والغاية لا يدخلان، فإذا أردنا تنزيل هذه الآية على آية سأل أخذنا [ ص: 234 ] هذا بالنسبة إلى صعود أحدنا مستويا لو أمكن، وجعلت الأرض واحدة في العدد، وأول تعددها كما قيل باعتبار الأقاليم، وزيد عليه مقدار ثخن السماوات وما بينهما، وزيد على المجموع مثل نصفه لمسافة الانحناء في بناء الدرج والتعريج الذي هو مثل محيط الدائرة بالوتر الذي قسمها بنصفين ليمكن الصعود منا، وهو مقدار نصف مسافة الاستواء وشيء يسير، لأنك إذا قسمت دائرة بوتر كان ما بين رأسي الوتر من محيط نصف الدائرة بمقدار ذلك الوتر مرة ونصفا سواء يزاد عليه يسير لأجل تعاريج الدرج، فإذا فعلنا ذلك كان ما بين أحد سطحي الكرسي المحدب وما يقابله من السطح الآخر بحسب اختراقه من جانبيه واختراق أطباق السماوات السبع: الأربعة عشر، اثنين وثلاثين ألف سنة، لأنه يخص كل سماء ألفان، لأنه فهم من هذا السياق أن من مقعر السماء إلى سطح الأرض الذي نحن عليه مسيرة ألف سنة و [بعد] ما بين كل سمائين كبعد ما بين [السماء والأرض، وثخن كل سماء كذلك، فيكون بعد ما بين أحد] سطحي الأرض إلى سطح الكرسي الأعلى ستة عشر ألف سنة، وبعد ما بين سطح الأرض إلى أعلى سطح الكرسي [ ص: 235 ] من الجانب الآخر كذلك، ثم يزاد على المجموع وهو اثنان وثلاثون ألف سنة مسافة ثخن الأرض وهي ألف سنة ليكون المجموع ثلاثة وثلاثين ألف سنة يزاد عليه ما للتعريج، وهو نصف تلك المسافة وشيء يكون سبعة عشر ألف سنة، فذلك خمسون ألف سنة، وإنما جعلت سطح الكرسي الأعلى النهاية، لأن العادة جرت أن لا يصعد إلى عرش الملك غيره، وأن الأطماع تنقطع دونه، بل ولا يصعد إلى كرسيه، وسيأتي اعتبار ذلك [في] الوجه الأخير، وإن قلنا: إن الأراضي سبع على أنها كرات مترتبة متعالية غير متداخلة، وأدخلنا العرش في العدد فنقول: إنه مع الكرسي والسماوات تسعة، فجانباها المحيطان بالأرض ثماني عشرة طبقة، والأراضي سبع، فتلك خمس وعشرون طبقة، فكل واحدة - مع ما بينها وبين الأخرى على ما هو ظاهر الآية - ألفان، فضعف هذا العدد، فيكون خمسين ألفا، وهذا الوجه أوضح الوجوه وأقربها إلى مفهوم الآية، ولا يحتاج معه إلى زيادة لأجل انعطاف الدرج، ويجوز أن نقول: إن السر - والله أعلم - [ ص: 236 ] في جعل ما مسيرته خمسمائة سنة - كما في الحديث - ألف سنة لأجل التعريج، والحديث ليس نصا في سير معين حتى يتحامى تأويله [بل] قد ورد بألفاظ متغايرة منها خمسمائة ومنها اثنتان وسبعون سنة ومنها إحدى وسبعون إلى غير ذلك فلا بد أن يحمل كل لفظ على سير فنقول: الخمسمائة للصاعد في درج مستقيم كدرج الدقل مثلا، والاثنان وسبعون لسير الطائر والألف كما في الآية لدرج منعطف، ويدل عليه ما رواه - وقال: إسناده حسن - عن الترمذي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عبد الله بن عمرو بن العاص ، [أو تقول: إن الألف لجملة التدبير بالنزول والعروج]. والله أعلم، وإن جعلنا البداية داخلة فتكون الألف من سطح الأرض الذي نحن عليه إلى محدب السماء لتتفق الآية مع الحديث القائل بأن بين الأرض والسماء خمسمائة سنة، وثخن السماء كذلك، [ ص: 237 ] وكذا بقية السماوات والعرش، أدخلنا العرش في العدد وقلنا: إن الأراضي سبع متداخلة كالسماوات، كل واحدة منها في التي تليها، فالتي نحن فيها أعلاها ومحيطة بها كلها، فهي بمنزلة العرش للسماوات، فتكون السماوات السبع من جانبيها بأربعة عشر ألفا والأراضي كذلك فذلك ثمانية وعشرون ألفا والعرش والكرسي من جانبيها بأربعة فذلك اثنان وثلاثون ألفا يضاف إليها ما يزيد انحناء المعارج الذي يمكن لنا معه العروج، وهو نصف مسافة الجملة وشيء، فالنصف ستة عشر ألفا، ونجعل الشيء الذي لم يتحرر لنا ألفين، فذلك ثمانية عشر ألفا إلى اثنين وثلاثين، فالجملة خمسون ألفا ويمكن أن يكون ذلك بالنسبة إلى السماوات مع الأراضي، والكل متطابقة متداخلة، فتلك ثمان وعشرون [طبقة من سطح السماء السابعة الأعلى إلى سطحها الأعلى من الجانب الآخر، فذلك ثمانية وعشرون] ألف سنة، لكل جرم خمسمائة، ولما بينه وبين الجرم الآخر كذلك فذلك [ألف] فضعفه بالنسبة إلى الهبوط والصعود فيكون ستة وخمسين ألفا حسب منه خمسون ألفا وألغي الكسر، لكن هذا الوجه مخالف لظاهر الآية التي في سورة سأل، وهي قوله تعالى: "لو أن رصاصة مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها" تعرج الملائكة والروح إليه في [ ص: 238 ] يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فإنه ليس فيها ذكر الهبوط. والله أعلم. وكل من هذه الوجوه أقعد مما قاله البيضاوي في سورة سأل، وأقرب للفهم والعرف، فإن كان ظاهر حاله أنه جعل الثمانية عشر ألفا من أعلى سرادقات العرش إلى أعلى سرادقاته من الجانب الآخر ولا دليل [على] هذا ولا عرف يساعد في صعود الخدم إلى أعلى السرادق، وهو الأعلى منه، والعلم عند الله تعالى، وروى عن إسحاق بن راهويه رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أبي ذر واعلم أن القول بأن الأراضي سبع هو الظاهر لظاهر قوله تعالى: "ما بين سماء الدنيا إلى الأرض خمسمائة سنة، و[ما] بين كل سماء إلى التي تليها خمسمائة سنة إلى السماء السابعة، والأرض مثل ذلك، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل [جميع] ذلك". الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ويعضده ما رواه الشيخان [وغيرهما عن] رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عائشة ، وفي رواية "من ظلم قدر شبر من الأرض طوقه الله من [ ص: 239 ] سبع أرضين" للبغوي: وروى "خسف به إلى سبع أرضين"، في صحيحه عن ابن حبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبي هريرة "إن المؤمن إذا حضره الموت - فذكره إلى أن قال -: وأما الكافر إذا قبضت نفسه ذهب به إلى الأرض فتقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحا أنتن من هذه، فيبلغ بها إلى [الأرض] السفلى" قال المنذري: وهو عند بسند صحيح، ويؤيد من قال: إنها متطابقة متداخلة كالكرات وبين كل أرضين فضاء كالسماوات ما روى ابن ماجه وصححه عند الحاكم رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن عمرو "إن الأرضين بين كل أرض إلى التي تليها مسيرة خمسمائة سنة، فالعليا منها على ظهر حوت" إلى آخره، وهو في آخر الترغيب للحافظ المنذري في آخر أهوال القيامة في سلاسلها وأغلالها، وروى في غريب الحديث عن أبو عبيد [القاسم] بن سلام رحمه الله أنه قال: إن مجاهد الحرم حرم مناه من السماوات السبع والأرضين السبع، وأنه رابع أربعة عشر بيتا، في كل سماء بيت وفي كل أرض بيت لو سقطت لسقط بعضها على بعض - مناه يعني قصده وحذاءه، [ ص: 240 ] وفي مجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمي أن الإمام روى من طريق أحمد الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف عن رضي الله عنه قال: أبي هريرة
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم قال: رواه بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه إذ مرت سحابة فقال: هل تدرون ما هذه؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: العنان وزوايا الأرض يسوقه الله إلى من لا يشكره، ولا يدعوه، أتدرون ما هذه فوقكم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: الرفيع موج مكفوف، وسقف محفوظ، أتدرون كم بينكم وبينها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: مسيرة خمسمائة عام، ثم قال: أتدرون ما الذي فوقها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: سماء أخرى، أتدرون كم بينكم وبينها؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: [مسيرة] خمسمائة عام - حتى عد سبع سماوات [ثم] قال -: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: العرش، قال: أتدرون كم بينه وبين السماء السابعة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال: مسيرة خمسمائة عام، ثم قال: ما هذه تحتكم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال: [ ص: 241 ] أرض قال: أتدرون ما تحتها؟ قلنا الله ورسوله أعلم! قال: أرض أخرى، أتدرون كم بينهما؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: مسيرة سبعمائة عام حتى عد سبعين أرضين، ثم قال: وأيم الله لو دليتم بحبل لهبط، ثم قرأ: غير أنه ذكر [أن] بين كل أرض والأرض الأخرى خمسمائة عام، وهنا سبعمائة، وقال في آخره: الترمذي ولعله أراد: [على] عرش الله أو على حكمه وعلمه وقدرته، يعني أنه في ملكه وقبضته ليس خارجا عن شيء من أمره - والله أعلم، ورأيت في جامع الأصول "لو دليتم بحبل لهبط على الله" لابن الأثير بعد إيراده هذا الحديث [ما نصه] قال أبو عيسى: قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد: لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ويكون مؤيدا للقول بأنها كرات متطابقة متداخلة - والله أعلم - ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولم يقل: كدرهم - مثلا - وكذا [ ص: 242 ] ما روى "ما السماوات السبع والأرضون السبع في العرش إلا كحلقة ملقاة في فلاة" محمد بن أبي عمر وإسحاق بن راهويه وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل عن وابن حبان رضي الله عنه حديثا طويلا فيه ذكر الأنبياء، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبي ذر وأصله عند "تدري ما مثل السماوات والأرض في الكرسي؟ قلت: لا إلا [أن] تعلمني مما علمك الله عز وجل، قال: مثل السماوات والأرض في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة، وإن فضل الكرسي على السماوات والأرض كفضل الفلاة على تلك الحلقة" النسائي والطيالسي وكذا ما روى صاحب الفردوس عن وأبي يعلى، رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: ابن عمر "ما السماوات السبع في عظمة الله إلا كجوزة معلقة" ، وقوله تعالى: وسع كرسيه السماوات والأرض يدل على أن الكرسي محيط بالكل من جميع الجوانب [وقوله تعالى: إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا صريح في ذلك، فإن النفوذ يستعمل في الخرق لا سيما مع التعبير ب "من" دون "في" ، وكذا قوله في السماء وما لها من فروج ]. والله الموفق.