ولما بان بهذين المتعادلين أنه لم يضطرهم إلى الإشراك عرف في أنفسهم مستمر دائم، ولا دليل عقلي ظاهر، ولا أمر من الله قاهر، فبان أنهم لم يتبعوا عقلا ولا نقلا، بل هم أسرى الهوى المبني على محض الجهل، وكان قد صرح بذلك عقب العديل الأول، لمح هنا، وترك التصريح به لإغناء الأول عنه، واستدل عليه بدليل خالفوا فيه العادة المستمرة، والدلالة الشهودية المستقرة، فقال عاطفا على وإذا مس دالا على خفة أحلامهم من وجه آخر غير الأول: وإذا معبرا [ ص: 95 ] بأداة التحقيق إشارة إلى أن الرحمة أكثر من النقمة، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال: أذقنا [وجرى الكلام على النمط الماضي في العموم لمناسبة مقصود السورة في أن الأمر كله له في كل شيء فقال]: الناس رحمة أي نعمة من غنى ونحوه لا سبب لها إلا رحمتنا فرحوا بها أي فرح مطمئن بطر آمن من زوالها، ناسين شكر من أنعم بها، وقال: وإن بأداة الشك دلالة على أن المصائب أقل وجودا، وقال: تصبهم غير مسند لها إليه تأديبا لعباده وإعلاما بغزير كرمه سيئة أي شدة تسوءهم من قحط ونحوه.
ولما كانت قال منبها لهم على ذلك منكرا قنوطهم وهم لا يرجعون عن المعاصي التي عوقبوا بسببها: المصائب مسببة عن الذنوب، بما قدمت أيديهم أي من المخالفات، مسندا له إلى اليد لأن أكثر العمل بها إذا هم أي بعد ما ساءهم وجودها مساءة نسوا بها ما خولوا فيه من النعم وجملوا به من ملابس الكرم يقنطون أي فاجؤوا اليأس، مجددين له في كل حين من أحيان نزولها وإن كانوا يدعون ربهم في كشفها ويستعينونه لصرفها مع مشاهدتهم لضد ذلك في كلا الشقين في أنفسهم وغيرهم متكررا، ولذلك أنكر عليه عدم [ ص: 96 ] الرؤية دالا بواو العطف أن التقدير: ألم يروا في أنفسهم تبدل الأحوال، قائلا: