ولما ذكر سبحانه الذكر والأنثى، المخلوقين من الأرض، وكانت السماء كالذكر للأرض التي خلق منها الإنسان، وكان خلقهما مع كونهما مخلوقين من غير شيء أعجب من خلقه فهو أدل على القدرة، [وكان خلق الأرض التي هي كالأنثى متقدما على عكس ما كان في الإنسان]، أتبعه ذكرهما بادئا بما هو كالذكر فقال مشيرا - بعد ما ذكر من آيات الأنفس - إلى آيات الآفاق: ومن آياته أي الدالة على ذلك، ولما كان من العجب إيجاد الخافقين من العدم إيجادا مستمرا على حالة واحدة، عبر بالمصدر فقال: خلق السماوات على علوها وإحكامها والأرض على اتساعها وإتقانها.
ولما كان من الناس من ينسب الخلق إلى الطبيعة، قال تعالى ذاكرا من صفات الأنفس ما يبطل تأثير الآفاق بأنفسها من غير خلقه وتقديره، وتكوينه وتدبيره: واختلاف ألسنتكم أي لغاتكم ونغماتكم وهيئاتها، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة، لا حد ولا رخاوة، [ ص: 70 ] ولا لكنة ولا فصاحة، ولا إسهاب ولا وجازة، وغير ذلك من صفات النطق وأحواله، ونعوته وأشكاله، وأنتم من نفس واحدة، فلو كان الحكم للطبيعة لم يختلف لأنه لا اختيار لها مع أن نسبة الكل إليها واحدة.
ولما كان لون السماء واحدا، وألوان الأراضي يمكن حصرها، قال: وألوانكم أي اختلافا مع تفاوته وتقاربه لا ضبط له مع وحدة النسبة، ولولا هذا الاختلاف ما وقع التعارف، ولضاعت المصالح، وفاتت المنافع، وطوى سبحانه ذكر الصور لاختلاف صور النجوم باختلاف أشكالها، والأراضي بمقادير الجبال والروابي وأحوالها، فلو كان الاختلاف لأجل الطبيعة فإما أن يكون بالنظر إلى السماء أو إلى الأرض، فإن كان للسماء فلونها واحد، وإن كان للأرض فلون أهل كل قطر غير مناسب للون أرضهم. وأما الألسنة فأمرها أظهر.
ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال: إن في ذلك أي الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه لآيات أي دلالات عدة واضحة جدا على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار وبطلان ما يقوله أصحاب الطبائع من تلك الاحتمالات التي هي مع خفائها واهية، ومع بعدها مضمحلة متلاشية [ ص: 71 ] للعالمين كلهم لا يختص به صنف منهم دون آخر من جن ولا إنس ولا غيرهم، وفي رواية حفص عن بكسر اللام حث للمخاطبين على النظر ليكونوا من أهل العلم، وفي قراءة الباقين بالفتح إيماء إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لو نطق الجماد لأخبر بمعرفته، ففيه إشارة إلى أنهم عدم، فلا تبكيت أوجع منه. عاصم