في بضع سنين وذلك من أدنى العدد لأنه في المرتبة الأولى، وهي مرتبة الآحاد، وعبر بالبضع ولم يعين إبقاء للعباد في ربقة نوع من الجهل، تعجيزا لهم، وتحديا لمن عاند بنفي ما أخبر به أو يعلم ما ستر منه، وتشريعا للتعمية إذا قادت إليها مصلحة، وشرح ذلك أنه كان بين فارس والروم حروب متواصلة، وزحوف متكاثرة، في دهور متطاولة، إلى أن التقوا في السنة الثامنة من نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في زمن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، فظفرت فارس على الروم، أخرج في تفسيره، سنيد بن داود في أسباب النزول، والواحدي في تفسير سورة والترمذي الروم من جامعه وغيرهم، وقد جمعت ما ذكروه، وربما أدخلت حديث بعضهم في بعض.
قال عن سنيد كانت في عكرمة: فارس [امرأة] لا تلد [ ص: 7 ] إلا الأبطال، فدعاها كسرى فقال: إني أريد أن أبعث [إلى الروم] جيشا، وأستعمل عليهم رجلا من بنيك، فأشيري علي أيهم أستعمل، فأشارت عليه بولد يدعى شهربراز، فاستعمله على جيش أهل فارس وقال الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد بن مسكويه في كتابه "تجارب الأمم وعواقب الهمم"، فقالت تصف بنيها: هذا فرحان أنفذ من [سنان]، هذا شهربراز أحكم من كذا، هذا فلان أروغ [من] كذا، فاستعمل أيهم شئت. فاستعمل شهربراز. انتهى. وبعث قيصر رجلا يدعى قطمير بجيش من الروم، فالتقى مع شهربراز بأذرعات وبصرى، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب فغلبت [فارس] الروم وظهروا عليهم فقتلوهم وخربوا مدائنهم وقطعوا زيتونهم، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وهم بمكة فشق ذلك عليهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم; لأن فارس لم يكن لهم كتاب، وكانوا يجحدون البعث، ويعبدون النار والأصنام، وفرح كفار مكة وشمتوا. قال عن الترمذي رضي الله عنهما: وكان [ ص: 8 ] المشركون يحبون أن يظهر أهل ابن عباس فارس على الروم، [وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس] لأنهم أهل كتاب. انتهى. فارس أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم، فإن قاتلتمونا لنظهرن عليكم. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما إنهم سيغلبون في بضع سنين" . أبو بكر فلقي المشركون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون وأهل
قال الترمذي رضي الله عنهما: فذكره ابن عباس رضي الله عنه لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجل خمس سنين فلم يظهروا فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا جعلته إلى دون" يعني دون العشرة، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع، ثم ظهرت أبو بكر الروم بعد ذلك، وروى عن أيضا عن الترمذي نيار بن مكرم الأسلمي رضي الله تعالى عنه وقال: حديث حسن صحيح غريب، قال: لما نزلت: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم وكان [ ص: 9 ] المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل الكتاب، وفي ذلك قول الله تعالى: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وكانت قريش "تحب" ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل الكتاب ولا إيمان ببعث، فلما نزلت هذه الآية خرج رضي الله عنه يصيح في نواحي أبو بكر مكة الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ! قال ناس من قريش رضي الله عنه: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبك أن لأبي بكر الروم ستغلب فارسا في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان، [فارتهن والمشركون وتواضعوا الرهان] وقالوا أبو بكر رضي الله عنه: كم تجعل البضع من ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسم بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه، فسموا بينهم ست سنين، فمضت الست السنون قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن لأبي بكر رضي الله عنه، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على أبي بكر فارس، فعاب المسلمون على رضي الله عنه تسمية ست سنين; لأن الله [ ص: 10 ] تعالى قال: أبي بكر في بضع سنين قال ابن الجوزي في "زاد المسير": وقالوا: هلا أقررتها على ما أقرها الله، لو شاء أن يقول: ستا، لقال. قال في روايته: وأسلم عند ذلك ناس كثير. وروى الترمذي أيضا الترمذي في أسباب النزول عن والواحدي رضي الله عنه أن ظهور أبي سعيد الروم عليهم كان يوم بدر. وقال فيما ذكره من عند الزمخشري أنه كان يوم سنيد الحديبية فإنه قال بعد أن ساق نحو ما مضى: فقال لهم رضي الله عنه - يعني للمشركين: لا يقرن الله أعينكم! فوالله لتظهرن أبو بكر الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أبي بن خلف: كذبت يا أبا فضيل! اجعل بيننا وبينك أجلا أناحبك عليه. - والمناحبة: المراهنة - فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعل الأجل ثلاث سنين، فأخبر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر وماده في الأجل، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين، [ ص: 11 ] ومات أبو بكر أبي من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم [يعني] الذي جرحه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين. وقيل: كان النصر يوم بدر للفريقين، فأخذ رضي الله عنه الخطر من ذرية أبو بكر أبي، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تصدق به". انتهى.
وربما أيد القول بأنه [سنة] الحديبية سنة ست ما في الصحيحين عن رضي الله عنهما عن ابن عباس رضي الله عنهم في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي سفيان هرقل وسؤال هرقل رضي الله عنه، وفيه أن ذلك لما كشف الله عن لأبي سفيان قيصر جنود فارس ومشى من حمص إلى إيلياء شكرا لما أبلاه الله، ومن المعلوم أن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه وإلى غيره من الملوك كان بعد الرجوع من الحديبية، وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة الصادقة على صحة النبوة، وأن القرآن من عند الله نزل بالحق المبين، لأنها إنباء عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى فطابقه الواقع. وقال ابن الجوزي: وفي الذي تولى [ ص: 12 ] وضع الرهان من المشركين قولان: أحدهما أبي بن خلف - قاله والثاني قتادة، قاله [أبو] سفيان بن حرب، انتهى. السدي.
وذكر القصة أبو حيان في تفسيره البحر، وزاد عن أن التقاءهم لما ظهرت مجاهد فارس كان في الجزيرة، وعن أنه كان بأرض السدي الأردن وفلسطين، وأن رضي الله عنه لما أراد الهجرة طلب منه أبا بكر أبي بن خلف كفيلا بالخطر الذي كان بينهما في ذلك، فكفل به ابنه رضي الله عنه، فلما أراد عبد الرحمن أبي الخروج [إلى أحد] طلبه بالكفيل، فأعطاه كفيلا، وهلك عبد الرحمن [أبي] من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال في تأريخه: كان بين ابن الفرات كسرى أنوشروان وبين ملك الروم هدنة، فوقع بين رجلين من أصحابهما فبغى الرومي على الفارسي، فأرسل كسرى إلى ملك الروم بسببه، فلم يحفل برسالته، فغزاه كسرى في بضع وسبعين ألف مقاتل فأخذ مدينة دارا والرها ومنبج وقنسرين وحلب وأنطاكية - وكانت أفضل مدينة بالشام - وفامية وحمص ومدنا كثيرة، واحتوى على ما كان فيها. وسبى أهل أنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد، وكان ملك الروم يؤدي إليه الخراج، ولم يزل مظفرا منصورا، تهابه الأمم، ويحضر بابه من وفودهم عدد كثير من الترك [ ص: 13 ] والصين والخزر ونظائرهم، وقال أيضا في ملك أبرويز بن هرمز بن أنوشروان: وكان شديد الفطنة، قوي الذكاء، بعث الأصبهبذ - يعني شهربراز - مرة إلى الروم فأخذ خزائن الروم، وبعث بها إلى كسرى، فخاف كسرى أن يتغير عليه الأصبهبذ، لما قد نال من الظفر فبعث بقتله، فجاء الرجل إليه فرأى من عقله وتدبيره ما منعه من قتله وقال: مثل هذا لا يقتل، وأخبره ما جاء لأجله، فبعث إلى قيصر ملك الروم: إني أريد أن ألقاك، فالتقيا فقال [له]: إن الخبيث قد هم بقتلي، وإني أريد إهلاكه، فاجعل لي من نفسك ما أطمئن إليه، وأعطيك من بيوت أمواله مثل ما أصبت منك، فأعطاه المواثيق، وسار قيصر في أربعين ألف مقاتل، فنزل بكسرى، فعلم كسرى كيف جرى الحال، فدعا قسا نصرانيا، يعني وكتب معه كتابا. وقال ابن مسكويه: وكان أبرويز وجه رجلا من جلة أصحابه في جيش جرار إلى بلاد الروم، فأنكى فيهم وبلغ منهم، وفتح الشامات وبلغ الدروب في آثارهم، فعظم أمره وخافه أبرويز فكاتبه بكتابين يأمره في أحدهما أن يستخلف على جيشه من يثق به ويقبل إليه، ويأمره في الآخر أن يقيم بموضعه، فإنه لما [ ص: 14 ] تدبر أمره وأجال الرأي لم يجد من يسد مسده، ولم يأمن الخلل إن غاب عن موضعه، وأرسل بالكتابين رسولا من ثقاته وقال له: أوصل الكتاب الأول [بالأمر] بالقدوم فإن خف لذلك فهو ما أردت، وإن كره وتثاقل عن الطاعة فاسكت عليه أياما ثم أعلمه الكتاب الثاني ورد عليك وأوصله إليه ليقيم بموضعه. فخرج رسول كسرى حتى ورد على صاحب الجيش ببلاد الشام، فأوصل الكتاب الأول إليه، فلما قرأه قال: إما أن يكون كسرى قد تغير لي وكره موضعي، أو يكون قد اختلط عقله بصرف مثلي وأنا في نحر العدو، فدعا أصحابه وقرأ عليهم الكتاب [فأنكروه، فلما كان بعد ثلاثة أيام أوصل إليه الكتاب] الثاني بالمقام، وأوهمه أن رسولا ورد به، فلما قرأه قال: هذا تخليط ولم يقع منه موقعا، ودس إلى ملك الروم من ناظره في إيقاع صلح بينهما على أن يخلي الطريق لملك الروم حتى يدخل بلاد العراق على غرة من كسرى، وعلى أن لملك الروم ما يغلب عليه من دون العراق، وللفارسي ما وراء ذلك إلى بلاد فارس، فأجابه ملك الروم إلى ذلك وتنحى الفارسي عنه في ناحية من الجزيرة، وأخذ أفواه الطرق، فلم يعلم كسرى حتى ورد خبر ملك الروم عليه من ناحية قرقيسيا وكسرى غير معد وجنده متفرق في أعماله، فوثب [ ص: 15 ] من سريره مع قراءة [الخبر] وقال: هذا وقت حيلة، لا وقت شدة، وجعل ينكت في الأرض مليا، ثم دعا برق وكتب فيه كتابا صغيرا بخط دقيق إلى صاحبه بالجزيرة يقول فيه: قد علمت ما كنت أمرتك به من مواصلة صاحب الروم وإطماعه في نفسك وتخلية الطريق له حتى إذا تولج في بلادنا أخذته من أمامه، وأخذته أنت ومن ندبناه لذلك من خلفه، فيكون ذلك بواره، وقد تم في هذا الوقت ما دبرناه، وميعادك في الإيقاع به يوم كذا وكذا، ثم دعا راهبا كان في دير بجانب مدينته وقال: أي جار كنت لك؟ قال: أفضل جار، قال: [فقد] بدت لنا إليك حاجة، فقال الراهب: الملك أجل من أن يكون له حاجة إلى مثلي، ولكن عندي بذل نفسي في الذي يأمر به الملك، قال كسرى: تحمل [لي] كتابا إلى فلان صاحبي - وقال إلى ابن الفرات: الأصبهبذ - ولا تطلعن على ذلك أحدا.
وأعطاه ألف دينار، قال: نعم! قال كسرى: فإنك تجتاز بإخوانك النصارى فأخفه، قال: نعم، فلما ولى عنه الراهب قال له [كسرى]: أعلمت ما في الكتاب؟ قال: لا، قال: فلا تحمله حتى تعلم ما فيه، فلما قرآه أدخله في جيبه ثم مضى، فلما صار في عسكر الروم نظر إلى الصلبان والقسيسين [ ص: 16 ] وضجيجهم بالتقديس والصلوات فاحترق قلبه لهم وأشفق مما خاف أن يقع بهم وقال في نفسه: أنا شر الناس إن حملت بيدي حتف النصرانية وهلاك هؤلاء القوم، فصاح: أنا لم يحملني كسرى رسالة ولا معي له كتاب، فأخذوه فوجدوا الكتاب معه، وقد كان كسرى وجه رسولا قبل ذلك اختصر الطريق حتى مر بعسكر الروم كأنه رسول إلى كسرى من صاحبه الذي طابق ملك الروم ومعه كتاب فيه أن الملك قد كان أمرني بمقاربة ملك الروم وأن أختدعه وأخلي له الطريق فيأخذه الملك من أمامه وآخذه أنا من خلفه، وقد فعلت ذلك، فرأى الملك في إعلامي وقت خروجه إليه، فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال: عجبت أن يكون هذا الفارسي أدهن على كسرى، ووافاه أبرويز فيمن أمكنه من جنده، فوجد ملك الروم قد ولى هاربا، فأتبعه يقتل ويأسر من أدرك، وبلغ الأصبهبذ هزيمة الروم فأحب أن يخلي نفسه ويستر ذنبه لما فاته ما دبر، فخرج خلف الروم الهاربين فلم يسلم منهم إلا قليل. وقال وخرج القس بالكتاب وأوصله إلى ابن الفرات: قيصر فقال: ما أراد إلا هلاكنا، وانهزم [ ص: 17 ] فاتبعه كسرى فنجا في شرذمة يسيرة، وافتتح كسرى أبرويز عدة من بلاد أعدائه، وبلغت خيله القسطنطينية وإفريقية. وقد ذكر ابن مسكويه أيضا ما يمكن أن يكون المراد بالآية، وشرح أسباب ذلك، فذكر أن هرمز بن أنوشروان لما بعث بهرام بن بهرام الملقب "جوبين" إلى ملك الترك وظفر به ثم بابنه، أساء السيرة فيه ولم يأذن له في الرجوع، بل أمره بالتقدم فيما لم يره بهرام صوابا وخاف مخالفته، وقد كان هرمز حسن السيرة جدا أديبا أريبا، داهيا إلا عرقا قد نزعه أخواله من الترك، فكان لذلك مقصيا للأشراف و[أهل] البيوتات والعلماء، ولم يكن له رأي إلا في تألف السفلة واستصلاحهم ففسدت عليه نيات الكبراء من جنده، فلما خافه بهرام جمع وجوه عسكره، وخرج عليهم في زي النساء وبيده مغزل وقطن ثم جلس في موضعه ووضع بين يدي كل واحد منهم مغزلا وقطنا، فامتعضوا لذلك، فقال: إن كتاب الملك ورد علي بذلك، فلا بد من امتثال أمره إن كنتم طائعين، فأبوا وخلعوا هرمز، وأظهروا أن ابنه أبرويز أصلح للملك منه، فلما سمع أبرويز بذلك خاف أباه على نفسه، فهرب إلى أذربيجان، ولما بلغ [ ص: 18 ] الجند الذين بحضرة هرمز خلعه أعجبهم، فضعف أمره، ثم أجمعوا على خلعه فخلعوه وسلموه، فكوتب أبرويز بذلك فبادر بهراما فسبقه وجلس على سرير الملك، فأطاعه الناس ودخل على أبيه، وأعلمه أنه نائبه، واعتذر إليه بأن ما حصل له لم يكن عن رأيه ولا برضاه ولا كان حاضره حتى يذب عنه، فعذره، وقصده بهرام فجرت بينهما أمور طويلة، وحروب هائلة، ضعف فيها أبرويز، وأحس من أصحابه فتورا، وتبين فيهم فشلا، فسار إلى أبيه وشاوره فرأى له المصير إلى ملك الروم، فنهض إلى ذلك في عدة يسيرة فيهم بندويه وبسطام خالاه، وكردي أخو بهرام، وكان ماقتا لأخيه بهرام ومناصحا لأبرويز، فقطعوا الفرات وصاروا إلى دير في أطراف العمارة، فلحقتهم خيل بهرام فقال بندويه لأبرويز: أعطني بزتك وزينتك لأحتال لك وأبذل نفسي دونك، ففعل فأمره بالنجاة بمن معه، وأقام هو في الدير، فلما أحيط به اطلع بندويه من فوق الدير فأوهمهم أنه أبرويز بما عليه من البزة والزينة، فظنوه وسألهم الإمهال إلى غد ليسلمهم نفسه فأمسكوا، وحفظ الدير بالحرس، فلما أصبحوا اطلع عليهم وقال: إن علي وعلى أصحابي بقية شغل من استعداد لصلوات وعبادات فأمهلونا، ولم يزل يدافع حتى [ ص: 19 ] مضى عامة النهار وعلم أن أبرويز قد فاتهم، ففتح حينئذ وأعلم قائدهم بأمرهم، فانصرف به إلى بهرام جوبين فحبسه.
ولما وصل أبرويز إلى أنطاكية كاتب ملك الروم وسأله نصرته، فأجابه وتوادا إلى أن زوجه ابنته مريم وحملها إليه، وبعث إليه ستين ألف مقاتل فيهم أخوه تياذوس وسأله ترك الأتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم إذا هو ملك، فاغتبط به أبرويز وسار بهم، فلما وصل إلى أداني أرضهم انضم إليه كثير من أهل فارس فاستظهر على بهرام، فقصد بهرام بلاد الترك فأكرمه ملكها، ولم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم الذي نصره حتى وثبت الروم عليه في شيء أنكروه منه فقتلوه وملكوا غيره، ولجأ ابنه إلى أبرويز فملكه على الروم وأرسل معه جنودا كثيفة عليهم شهربراز، فدوخ عليهم البلاد، وملك صاحب كسرى بيت المقدس وقصد قسطنطينية، فأناجوا على ضفة الخليج القريب منها، ولم يخضع لابن الملك الذي توجه كسرى أحد من الروم، وكانوا قد قتلوا الذي ملكوه بعد أبيه لما ظهر من فجوره وسوء تدبيره، وملكوا عليهم رجلا يقال له هرقل.
وقال إن ابن الفرات: أبرويز بعث مع ابن الملك الذي كان نصره [ثلاثة] من قواده في جنود كثيرة كثيفة، أما أحدهم فإنه كان [ ص: 20 ] يقال له زميرزان وجهه إلى بلاد الشام فدوخها حتى انتهى إلى بلاد فلسطين، وورد مدينة بيت المقدس، وأخذ أسقفها ومن كان فيها من القسيسين وسائر النصارى بخشبة الصليب، وكانت قد دفنت في بستان في تابوت من ذهب وزرع فوقها مبقلة فدلوه عليها فحفر واستخرجها وبعث بها إلى كسرى في سنة أربع وعشرين من ملكه، وأما القائد الثاني - وكان يقال له: شاهير - فسار حتى احتوى على مصر والإسكندرية وبلاد النوبة وبعث إلى كسرى [بمفاتيح] مدينة الإسكندرية [في سنة] ثمان وعشرين من ملكه، وأما القائد الثالث [وكان] يقال له: فرهان، فإنه قصد قسطنطينية حتى أناخ قريبا من ماء [و] خيم هنالك فأمره كسرى فخرب بلاد الروم غضبا مما انتهكوا من موريق - يعني الملك الذي كان نصره، وفعل هذا لأجل ابنه، وانتقاما له منهم، ولم ينقد لابن الملك الذي فعل هذا لأجله أحد من الروم، لأنهم لما قتلوا الملك قوفا ملكوا عليهم رجلا يقال له هرقل، ثم اتفق [ ص: 21 ] ابن الفرات وابن فتحون فقالا: فلما رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس إياها وقتلهم مقاتلتهم، وسبيهم ذراريهم، واستباحتهم أموالهم، تضرع إلى الله تعالى، وأكثر الدعاء والابتهال فيقال: إنه رأى في منامه رجلا ضخم الجثة رفيع المجلس [عليه]، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل: إني قد سلمته [في] يدك، فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته حتى توالت عليه أمثالها، فرأى في بعض لياليه كأن رجلا دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة فألقاها في عنق صاحب المجلس الرفيع عليه ثم دفعه إليه وقال له: ها قد دفعت إليك كسرى برمته، [و] قال فاغزه فإنك مدال عليه، ونائل أمنيتك في غزاتك، فلما تتابعت عليه هذه الأحلام قصها على عظماء ابن الفرات: الروم وذوي العلم منهم، فأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعد هرقل واستخلف ابنه على مدينة قسطنطينية، وأخذ غير الطريق الذي فيه شهربراز صاحب كسرى، وسار حتى دخل في بلاد أرمينية ونزل بنصيبين بعد سنة، وقد كان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى استدعي لموجدة كانت من كسرى عليه، وأما شهربراز [ ص: 22 ] فكانت كتب كسرى ترد عليه في الجثوم على الموضع الذي هو به، وترك البراح، ثم بلغ كسرى تساقط هرقل في جنوده إلى نصيبين فوجه لمحاربة هرقل رجلا من قواده يقال له: راهزاد في اثني عشر ألفا من الأنجاد، وأمره أن يقيم بنينوى وهي التي تدعى الآن الموصل - على شاطئ دجلة، ويمنع الروم أن يجوزوها، وكان كسرى بلغه خبر هرقل وأنه مغذ وهو يومئذ مقيم بدسكرة الملك، فتعذر راهزاد لأمر كسرى وعسكر حيث أمره فقطع هرقل دجلة من موضع آخر إلى الناحية التي كان فيها جند فارس، فأذكى راهزاد العيون عليه فانصرفوا إليه فأخبروه أنه في سبعين ألف مقاتل، فأيقن راهزاد أنه ومن معه من الجند عاجزون عن مناهضته، فكتب إلى كسرى غير مرة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدته، قال فكتب ابن الفرات: كسرى إنكم [إن] عجزتم عن الروم لم تعجزوا عن بذل دمائكم في طاعتي، فلما تتابعت على راهزاد جوابات كسرى بذلك عبى جنده، وناهض الروم بهم، [ ص: 23 ] فقتل الروم راهزاد وستة آلاف رجل، وانهزمت بقيتهم، وهربوا على وجوههم، وبلغ كسرى قتل الروم راهزاد [وستة آلاف] وما نال هرقل من الظفر فهده ذلك وانحاز من دسكرة الملك إلى المدائن، وتحصن به لعجزه كان عن محاربة هرقل، وسار هرقل حتى كان قريبا من المدائن.
قال فاستعد ابن الفرات: كسرى لقتاله ثم خالف كسرى ملك الروم فرجع إلى بلاده فحمل خزائنه في البحر. فعصفت الريح فألقتها بالإسكندرية، فظفر بها أصحابه من الروم، وذكر المسعودي هذا فخالف بعض المخالفة: فقال: وثب بطريق من بطارقة الروم يقال له قوقاس فيمن اتبعه على تموريقس ملك الروم حمو أبرويز ومنجده، فقتلوه وملكوا قوقاس، ونمى ذلك إلى أبرويز فغضب لحموه وسير إلى الروم جيوشا وكانت له في ذلك أخبار يطول ذكرها، وسير شهريار مرزبان المغرب إلى حرب الروم فنزل أنطاكية وكانت له مع ملك الروم وأبرويز أخبار ومكاتبات وحيل إلى أن خرج ملك الروم إلى حرب شهريار، وقدم خزائنه في البحر في ألف مركب، [ ص: 24 ] فألقتها الريح إلى ساحل أنطاكية فغنمها شهريار فحملها إلى أبرويز فسميت خزائن الريح، ثم فسدت الحال بين أبرويز وشهريار، ومايل شهريار ملك الروم فسيره شهريار نحو العراق إلى أن انتهى إلى النهروان فاحتال أبرويز في كتب كتبها مع بعض أساقفة النصرانية ممن كان في ذمته حتى رده إلى القسطنطينية، وأفسد الحال بينه وبين شهريار. وقال أبو حيان : وسبب ظهور الروم أن كسرى بعث إلى شهربراز وهو الذي ولاه على محاربة الروم أن اقتل أخاك فرخان. انتهى. وهذا هو تتمة ما تقدم في خبر المرأة التي [كانت] لا تلد إلا الأبطال، وأن كسرى بعث ابنها شهربراز إلى حرب الروم فظهر عليهم.
قال ابن مسكويه: فلما ظهرت فارس على الروم جلس فرخان يشرب فقال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى، فبلغت مقالته كسرى فكتب إلى شهربراز: إذا أتاك كتابي هذا فابعث إلي برأس فرخان، فكتب إليه: أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان، فإن له نكاية في العدو وصوتا فلا تفعل، فكتب إليه: إن في رجال فارس خلفا منه [ ص: 25 ] فعجل إلي برأسه، فراجعه فغضب كسرى وبعث بريدا إلى أهل فارس: إني قد نزعت عنكم شهربراز واستعملت فرخان، ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وقال: إذا ولي الفرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطه، فلما قرأ شهربراز الكتاب قال: سمعا وطاعة، ونزل عن سريره، وجلس فرخان ودفع البريد الصحيفة إليه فقال: ائتوني بشهربراز، فقدمه ليضرب عنقه فقال: لا تعجل حتى أكتب وصيتي، قال: افعل. فدعا بسفط وأعطاه ثلاث صحائف، وقال: كل هذا راجعت فيك كسرى و [أنت] أردت أن تقتلني بكتاب واحد، فرد الملك على أخيه، فكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم: إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد و [لا] تبلغها الصحف فالقني، ولا تلقني إلا في خمسين روميا، فإني أيضا ألقاك في خمسين فارسا، فأقبل قيصر في خمسمائة رومي، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا، ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما، واجتمعا ومع كل [واحد] منهما سكين، ودعوا ترجمانا بينهما، فقال شهربراز: إن الذين خربوا مدائنك، وبلغوا منك [و] من جندك ما بلغوا أنا وأخي بشجاعتنا وكيدنا، وإن [ ص: 26 ] كسرى حسدنا فأراد أن أقتل أخي فأبيت، ثم أمر أخي أن يقتلني فقد خلعناه جميعا فنحن نقاتله معك، فقال: قد أصبتما ووفقتما ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر إنما يكون بين اثنين، فإذا جاوز اثنين فشا، قال صاحبه: أجل، فقاما جميعا إلى الترجمان بسكينيهما فقتلاه، واتفقا على قتال كسرى، فتعاون شهربراز وهرقل على كسرى، فغلبت الروم فارس. وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في أوائل فتوح مصر نحو هذا الحديث من حديث رضي الله عنهما أنه سمع ابن عباس رضي الله عنه يسأل ابن عمر الهرمزان عن سبب ظهور الروم على كسرى فأخبره [به]، وكان مما تمكن الخلاف عليه أيضا أنه كان طلب الذين هربوا بعد قتل قائدهم راهزاد، وأمر بأن يعاقبوا على انهزامهم، فأحوجهم بهذا إلى الخلاف عليه وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه، فإن كانت الوقعة التي غلبت الروم فيها بأذرعات أو الأردن فهي أدنى أرض الروم - أي أقربها - إلى مكة المشرفة، وإن كانت بالجزيرة فهي أدنى بالنظر إلى كسرى - هذا ما حقت فيه الآية في ظاهر العبارة وصريحها [مع] ما انضم إلى ذلك من إدالة العرب على الفرس أيضا في هذا الوقت في وقعة ذي قار - كما بينته في شرحي لنظمي للسيرة النبوية المسمى "نظم الجواهر من سيرة سيد الأوائل والأواخر" [ ص: 27 ] وسيأتي ملخصه قريبا - حتى يقال: إن نصرة الروم والعرب ونصرة المسلمين في بدر كانت في آن واحد.
ومن أعاجيب ما دخل تحت مفهوم الآية من لطائف المعجزات في باطن الإشارة وتلويحها أن زماننا هذا كان قد غلب فيه على ملك مصر جندها الغرباء من الترك وغيرهم ثم اختص به الشراكسة منهم من نحو مائة سنة، وهم ممن ليس له كتاب في الأصل وإن كان إسلامهم قد جب ما كانوا عليه من قبل وكانوا إذا مات أحدهم وله ابن ولوا ابنه لأجل مماليكه واتباع أبيه إلى أن يعملوا الحيلة في خلعه، وكان أكثر أولادهم يكون صغيرا أو في حكمه حتى كانت سنة خمس وستين وثمانمائة، فصادف أن المتولي بها من أولادهم المؤيد أحمد بن الأشرف إينال العلائي، وكان قد ناهز الأربعين، وكان عنده حزم ودهاء، وزادت مدة ولايته بعد أبيه على أربعة أشهر فثقل عليهم جدا، وكان الأمير الكبير خشقدم أحد مماليك المؤيد شيخ وهو رومي، وكانت عادتهم [أنهم] إذا خلعوا أحدا من أبناء الملوك ولو الملك من كان في الإمرة الكبرى، فاختار [ ص: 28 ] الشراكسة ولايته وإن كان من غيرهم على ولاية من ولد في الإسلام في بلاد العرب، فأعملوا الحيلة في أمره إلى أن أجمع أمرهم ورأيهم كلهم على خلعه حتى مماليكه ومماليك أبيه، فقاموا في ذلك قومة رجل واحد في أواخر شهر رمضان من السنة المذكورة، فلما لم يجد له ناصرا أسلم نفسه في اليوم الثاني من وثوبهم عليه، فعرضوا الولاية على شخص منهم فلم ير التقدم على أكبر منه في الرتبة فأشار إلى الأمير الكبير فولوه، ثم اجتهد بعضهم في نزعه فلم يقدرهم الله على ذلك ولم يجمع كلمتهم على أحد، وقام هو في الأمر بجد عظيم وحزم، ولين في شدة وعزم، حتى استحكم أمره، وعظم قدره، وحسب عدد "بضع" بالجمل فإذا هو اثنان وسبعون وثمانمائة، وهو مقدار ما مضى من السنين من حين نزول الآية إلى حين ولايته، وذلك أن نصر أهل فارس على الروم كما مضى كان في السنة الثامنة من النبوة، وحينئذ نزلت الآية، فإذا قلنا: إن نزولها كان في شهر رمضان من تلك السنة، كان قبل الهجرة بست سنين إذا جعلنا كسر الثامنة سنة، وقد كانت وقعة بدر في سابع عشر شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة في الشهر السابع، فيكون نصر الروم إذا صححنا كما هو الذي ينبغي أن [ ص: 29 ] لا يعتقد غيره لدلالة القرآن العظيم عليه كما تأتي الإشارة إليه أنه في سنة غزوة بدر في آخر السنة السابعة من حين نزول الآية، ويكون ولاية السلطان خشقدم لكونها في أواخر شهر رمضان في ابتداء سنة ست وستين من الهجرة، فإذا ضممت إليها الست التي كانت قبل الهجرة كانت الجملة ثمانيمائة واثنين وسبعين على عدد "بضع" المنظوم في الآية [سواء]، وإن صححنا كما أيده ما في الصحيح عن أن نصر أبي سفيان الروم كان وقت الحديبية وذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، وكما قلنا: كان نزول الآية قبل الهجرة بشهرين ونحوهما، صح أن نصر الروم كان عند دخول السنة السابعة من نزول الآية كما في رواية عن الترمذي [نيار] رضي الله عنه، وكان الموافق لعدد البضع سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة من الهجرة، وفيها غلب شخص من الروم، وذلك أن الظاهر خشقدم مات في ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة من الهجرة، فولى بعده الأمير الكبير يلبية وهو من الشراكسة، فلم ينتظم له الأمر، فخلع في جمادى الأولى منها، وولى الأمير الكبير تمربغا ولقب الظاهر وهو رومي، فكان ذلك من الآيات الباهرات إن وافق هذا الأمر العدد المذكور على كلتا الروايتين: رواية من قال: [ ص: 30 ] إن النصر كان يوم بدر، ورواية من قال: كان يوم الحديبية، ولولا ولاية يلبية ما صح إلا أحدهما، إن في ذلك لعبرة، هذا إن عددنا آحاد السنين، وإن عددناها مئات فهو في بضع منها، فإنه في المائة التاسعة كما أشار إليه الأستاذ في تفسيره فقال: حكمة الله جل ذكره في دوائر التقدير أن يرجع فيها أواخر الكلم عن أوائلها، ومن الدوائر مقدرة، ومنها موسعة على مقدار مشيئة الله فيها وبها، ولما أخبر الله تعالى عن أبو الحكم عبد السلام بن برجان الروم أنهم غلبوا في أدنى الأرض وهي بلد الشام، كان إخبارا منه عما يكون - والله أعلم - وبشارة بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن ذلك سيكون، يعني أن معنى "غلبت" مبنيا للمفعول إن كان بالنسبة إلى فارس كان المعنى وقع غلبها، وإن كان بالنسبة للمسلمين كان المعنى: قرب زمان غلبها على أيدي المسلمين، ثم قال: فكان ذلك في زمان رضي الله عنه، غلبهم في بلاد عمر بن الخطاب الشام، واستخرج بيت المقدس عن أيديهم.
والبضع من الثلاث إلى التسع، وكان نزول هذه السورة بمكة فكان ذلك داخل بضع أسابيع سنين على رأس عشرين إلى ثمان [ ص: 31 ] وعشرين سنة، ثم لم يزل الفتح بعد ذلك يتصل ويتسع إلى نهاية سبقت في التقدير، ثم ذكر عود التقدير باستيلاء الروم على بعض أطراف الشام ثم باستنقاذ المسلمين ذلك منهم، ونظر إلى ذلك تارة بحسب الأسابيع وتارة بحسب آحاد المئات، وتارة بغير ذلك، وصحح وقوعه في البضع بالغالبية والمغلوبية مرة بعد أخرى، وهو من بدائع الأنظار، ودقائق الأسرار الكبار.
ولما كان تغليب ملك على ملك من الأمور الهائلة، وكان الإخبار به قبل كونه أهول، ذكر علة ذلك فقال: لله أي وحده الأمر ولما أفهم السياق العناية بالروم، فكان ربما توهم أن غلب فارس لهم في تلك الواقعة وتأخير نصرهم إلى البضع ربما كان لمانع لم يقدر على إزالته، نفى ذلك بإثبات الجار المفيد لأن أمره تعالى مبتدئ من الزمن الذي كان قبل غلبهم حتى لم تغلبهم فارس إلا به، وهو مبتدئ من الزمن الذي بعده، فالتأخير به لا بغيره، لحكمة دبرها سبحانه فقال: من قبل [أي] قبل دولة أهل فارس على الروم ثم دولة الروم على فارس، لا إلى غاية تكون مبدأ لاختصاصه بالأمور فيه سبحانه غلبوهم ومن بعد أي بعد دولة الروم عليهم ودولتهم على الروم [لا إلى غاية] فيه أيضا غلبهم الروم، فحذف المضاف إليه [ ص: 32 ] هو الذي أفهم أن زمن غلبة فارس لهم وما بعده من البضع مذكور دخوله في أمره مرتين.
ولما أخبر بهذه المعجزة، تلاها بمعجزة أخرى، وهو أن أهل الإسلام لا يكون لهم ما يهمهم فيسرون بنصره فقال: ويومئذ أي إذ تغلب الروم على فارس يفرح المؤمنون أي العريقون في هذا الوصف من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم