ولما ذكر عباده الذين خذلهم بتسليط الشيطان عليهم فصاروا حزب الشيطان، ولم يصفهم إلى اسم من أسمائه، إيذانا بإهانتهم لهوائهم عنده، وهم الذين صرح بهم قوله أول السورة نذيرا وختم بالتذكر والشكر إشارة إلى عباده الذين أخلصهم لنفسه، وأشار إليهم سابقا بتخصيص الوصف بالفرقان، فأتبع ذلك ذكرهم، فقال عاطفا على جملة الكلام في قوله وإذا قيل لهم لكنه رفعهم بالابتداء [ ص: 420 ] تشريفا لهم: وعباد ويجوز أن يقال ولعله أحسن: أنه سبحانه لما وصف الكفار في هذه السورة بما وصفهم به من الفظاظة والغلظة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعداوتهم له، ومظاهرتهم على خالقهم، ونحو ذلك من جلافتهم، وختم بالتذكر والشكر، وكان التقدير: فعباد الشيطان لا يتذكرون ولا يشكرون، لما لهم من القسوة، عطف على هذا المقدر أضدادهم، واصفا لهم بأضداد أوصافهم، مبشرا لهم بضد جزائهم، فقال: وعباد الرحمن فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان كل الخلق عباده، وأضافهم إلى صفة وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أولئك تبشيرا لهم; ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبرين عن السجود، إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بأمر كبير، فقال: الذين يمشون وقال: على الأرض تذكيرا بما هم منه وما يصيرون إليه، وحثا على السعي في معالي الأخلاق للترقي عنه، وعبر عن حالهم بالمصدر مبالغة في اتصافهم بمدلوله حتى كانوا إياه، فقال: هونا أي ذوي هون، أي لين ورفق وسكينة ووقار وإخبات وتواضع، لا يؤذون أحدا ولا يفخرون، رحمة لأنفسهم وغيرهم، غير متابعين ما هم فيه من الحرارة الشيطانية، فبرؤوا من [ ص: 421 ] حظوظ الشيطان، لأن من كان من الأرض وإليها يعود لا يليق به إلا ذلك، والأحسن أن يجعل هذا خبر "العباد" ، ويكون
أولئك يجزون الغرفة استئنافا متشوفا إليه تشوف المستنتج إلى النتيجة.
ولما ذكر ما أثمره العلم من الفعل في أنفسهم، أتبعه ما أنتجه الحلم من القول لغيرهم فقال: وإذا دون "إن" لقضاء العادة بتحقق مدخولها، ولم يقل: والذين كبقية المعطوفات، لأن الخصلتين كشيء واحد من حيث رجوعهما إلى التواضع خاطبهم خطابا ما، بجهل أو غيره وفي وقت ما الجاهلون أي الذين يفعلون ما يخالف العلم والحكمة قالوا سلاما أي ما فيه سلامة من كل سوء، وليس المراد التحية - نقل ذلك عن سيبويه أبي الخطاب ، قال: لأن الآية فيما زعم مكية، ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين، ولكنه على قولك: تسليما لا خير بيننا وبينكم ولا شرا - انتهى.
فلا حاجة إلى ادعاء نسخها بآية القتال ولا غيرها، لأن الإغضاء عن السفهاء [ ص: 422 ] وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة، وأسلم للعرض والورع، وكأنه أطلق الخطاب إعلاما بأن أكثر قول الجاهل الجهل.