ولما انتفى الرد عن الهوى قسرا بالوكالة، نفى الرد طوعا بتقبيح الضلالة، فذكر المانع منه بقوله معادلا لما قبله، منكرا حسبانه، لا كونه هو الحاسب، أو أنكر كونه هو الحاسب، مع ما له من العقل الرزين، والرأي الرصين، ويكون تحسب معطوفا على "تكون" : أم تحسب أن أكثرهم أي هؤلاء المدعوين يسمعون أي سماع من ينزجر ولو كان غير عاقل كالبهائم أو يعقلون ما يرون ولو لم يكن لهم سمع حتى يطمع في رجوعهم باختيارهم من غير قسر.
ولما كان هذا الاستفهام مفيدا للنفي، أثبت ما أفهمه بقوله: إن أي ما هم إلا كالأنعام أي في عدم العقل لعدم الانتفاع به بل هم أضل أي منها سبيلا لأنهم لا ينزجرون بما يسمعون وهي تنزجر، ولا يشكرون للمحسن وهو وليهم، لا يجانبون المسيء وهو عدوهم، ولا يرغبون في الثواب، ولا يخافون العقاب، وذلك لأنا حجبنا شموس عقولهم بظلال الجبال الشامخة من ضلالهم، ولو آمنوا لانقشعت تلك الحجب، وأضاءت أنوار الإيمان، فأبصروا غرائب المعاني، وتبدت لهم خفايا الأسرار
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات [ ص: 396 ] يهديهم ربهم بإيمانهم فكما أن الإنسان - وإن كان بصيرا - لا يميز بين المحسوسات ما لم يشرق عليها نور الشمس، فكذلك الإنسان - وإن كان عاقلا ذا بصيرة - لا تدرك بصيرته المعاني المعلومات على ما هي عليه ما لم يشرق عليها نور الإيمان، لأن البصيرة عين الروح كما أن البصر عين الجسد; ولما كان من المعلوم أنهم يسمعون ويعقلون وأن المنفي إنما هو انتفاعهم بذلك، كان موضع عجب من صرفهم عن ذلك، فعقبه سبحانه بتصرفه في الأمور الحسية مثالا للأمور المعنوية، ولأن عمله في الباطن ينيره إذا شاء بشمس المعارف كعمله في الظاهر سواء، دليلا على سلبهم النفع بما أعطاهموه.