ولما بدأ بالقومة من الرجال، ثنى بالنساء فقال: وقل للمؤمنات فرغب أيضا بذكر هذا الوصف الشريف يغضضن ولما كان المراد قال: الغض عن بعض المبصرات وهم المحارم من أبصارهن فلا يتبعنها النظر إلى منهي عنه رجل أو غيره، وأجابوا عن حديث رضي الله عنها في النظر إلى لعب عائشة الحبشة في المسجد باحتمال أنها كانت دون البلوغ لأنها قالت: فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو
ويحفظن فروجهن عما لا يحل لهن من كشف وغيره. ولما كان النساء حبائل الشيطان، أمرن بزيادة الستر بقوله: [ ص: 259 ] ناهيا عن ليكون النهي عن مواقعها من الجسد أشد وأولى الزينة ولا يبدين زينتهن أي كالحلي والفاخر من الثياب فكيف بما وراءها إلا ما ظهر منها أي كان بحيث يظهر فيشق التحرز في إخفائه فبدا من غير قصد كالسوار والخاتم والكحل فإنها لا بد لها من مزاولة حاجتها بيدها ومن ونحوها. كشف وجهها في الشهادة
ولما كان أكثر الزينة في الأعناق والأيدي والأرجل، وكان دوام ستر الأعناق أيسر وأمكن، خصها فقال: وليضربن من الضرب، وهو وضع الشيء بسرعة وتحامل، يقال: ضرب في عمله: أخذ فيه، وضرب بيده إلى كذا: أهوى، وعلى يده: أمسك، وضرب الليل بأوراقه: أقبل، والضارب: الليل الذي ذهبت ظلمته يمينا وشمالا وملأت الدنيا، والضارب: الطويل من كل شيء والمتحرك.
ولما كان المقصود من هذا الضرب بعض الخمار، وهو ما لاصق الجيب منه، عداه بالباء فقال: بخمرهن جمع خمار، وهو منديل يوضع على الرأس، وقال أبو حيان : وهو المقنعة التي تلقي المرأة على رأسها.
على جيوبهن جمع جيب، وهو خرق الثوب الذي [ ص: 260 ] يحيط بالعنق، فالمعنى حينئذ يهوين بها إلى ما تحت العنق ويسبلنها من جميع الجوانب ويطولنها سترا للشعر والصدر وغيرهما مما هنالك، وكأنه اختير لفظ الضرب إشارة إلى قوة القصد للستر وإشارة إلى العفو عما قد يبدو عند تحرك الخمار عند مزاولة شيء من العقل; قال أبو حيان : وكان النساء يغطين رؤوسهن بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهور فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهن.
وروى في التفسير البخاري عن رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزلت عائشة وليضربن بخمرهن شققن مروطهن - وفي رواية: أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي - فاختمرن بها ، يعني تسترن ما قدام، والإزار هنا الملاء.
ولما كان ذكر الجيب ربما أوهم خصوصا في الزينة، عم بقوله: ولا يبدين أو كرره لبيان من يحل الإبداء له ومن لا يحل، وللتأكيد زينتهن أي الخفية في أي موضع كانت من عنق أو غيره، [ ص: 261 ] وهي ما عدا الوجه والكفين، وظهور القدمين، بوضع الجلباب، وهو الثوب الذي يغطي الثياب والخمار قاله رضي الله عنهما. ابن عباس
إلا لبعولتهن أي أزواجهن، فإن الزينة لهم جعلت. قال أبو حيان : ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر فالأب والأخ ليس كابن الزوج - انتهى. فقال تعالى: إبداء الزينة، أو آبائهن أي فإن لهم عليهن من الشفقة ما يمنع النظر بالشهوة ومثلهم في هذا المعنى سواء الأعمام والأخوال وكل منهما والد مجازا بدليل وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل أو آباء بعولتهن فإن رحمتهم لأولادهم مانعة أو أبنائهن فإن لهن عليهن من الهيبة ما يبعد عن ذلك أو أبناء بعولتهن فإن هيبة آبائهم حائلة أو إخوانهن فإن لهم من الرغبة في صيانتهن عن العار ما يحفظ من الريبة أو بني عدل به عن جمع التكسير لئلا يتوالى أربع مضمرات من غير فاصل حصين فتنقص عذوبته إخوانهن أو بني أخواتهن فإنهم كأبنائهن أو نسائهن أي المسلمات، وأما غير المسلمات فحكمهن حكم الرجال; [ ص: 262 ] روى سعيد بن منصور في سننه عن رضي الله عنه أنه كتب إلى عمر عبيدة رضي الله عنه ينهى عن وقال: فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها ، وفي مسند دخول الذميات الحمام مع المسلمات، نحوه عن عبد بن حميد رضي الله عنهما . ابن عباس
أو ما ملكت أيمانهن أي من الذكور والإناث وإن كن غير مسلمات لما لهن عليهن من الهيبة، وحمل الآية على الإماء فقط; قال ابن المسيب أبو حيان : قال : وهذا هو الصحيح، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصيا كان أو فحلا، وعن الزمخشري ميسون بنة بحدل الكلابية أن رضي الله عنه دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه فقال: هو خصي، فقالت: يا معاوية ! أترى المثلة به تحلل ما حرم الله - انتهى. معاوية
وقصة مابور ترد هذا، وقوله: الكلابية، قال شيخنا في تخريج الكشاف: صوابه: الكلبية بإسكان اللام.
أو التابعين أي للخدمة أو غيرها غير أولي الإربة أي الحاجة إلى الاستمتاع بالنساء من الرجال كالشيوخ الفانين ومن بهم علة منعت شهوتهم، وكذا من كان ممسوحا لقصة مابور أو من [ ص: 263 ] الطفل أي جنسه، والطفل الصغير ما لم يبلغ الحلم أو خمس عشرة سنة، وهو في الأصل: الرخص الناعم من كل شيء، وكأنه سمي بذلك لأنه يخرج ملتبسا بالتراب الذي تأكله الحامل، قال في القاموس: وطفل النبت كفرح وطفل بالضم تطفيلا: أصابه التراب، والطفال، كغراب وسحاب: الطين اليابس. قال القزاز : ويسميه أهل نجد الكلام والعامة تقول لجنس منه: طفل، الذين لم يظهروا أي لم يعلوا بالنظر المقصود للاطلاع على عورات النساء لعدم بلوغ سن الشهوة لذلك.
ولما نهى عن الإظهار، نبه على أمر خفي منه فقال: ولا يضربن بأرجلهن أي فيها. ولما كان ذلك لمطلق الإعلام، بناه للمفعول فقال: والخلاخيل وغيرها من الزينة ليعلم ما يخفين أي بالساتر الذي أمرن به من زينتهن بالصوت الناشئ من الحركة عند الضرب المذكور، وفي معنى ذلك التطيب، والنهي عن ذلك يفهم النهي عن موضعه من الجسد من باب الأولى.
ولما أنهى سبحانه ما أمره صلى الله عليه وسلم بالتقدم فيه إلى الرجال والنساء، وكان من المعلوم أن العبد الحقير المجبول على الضعف [ ص: 264 ] الموجب للتقصير لن يقدر على أن يقدر المولى العلي الكبير حق قدره وإن أبلغ في الاجتهاد وزاد في التشمير، أتبعه التلطف بالإقبال عليهم في الأمر بإقبالهم إليه إشارة إلى أن الأمر في غاية الصعوبة، وأن الإنسان لكونه محل الزلل والتقصير - وإن اجتهد - لا يسعه إلا إحسان الرحيم الرحمن، فقال: وتوبوا إلى الله أي ارجعوا إلى طاعة الملك الأعلى مهما حصل منكم زيغ كما كنتم تفعلونه في الجاهلية جميعا رجالكم ونساؤكم أيه المؤمنون والتعبير بالوصف إشارة إلى علو مقام التوبة بأنه لا يقدر على ملازمتها إلا راسخ القدم في الإيمان، عارف بأنه وإن بالغ في الاجتهاد واقع في النقصان، وهذا الأمر للوجوب، وإذا كان للراسخين في الإيمان فمن دونه من باب الأولى لعلكم تفلحون أي لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطلوب الذي مضى أول سورة المؤمنون تعليقه بتلك الأوصاف التي منها رعاية الأمانة ولا سيما في الفروج; قال في كتاب التوبة من الإحياء: الغزالي فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب، فإن خلا عنه فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله، فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة [ ص: 265 ] وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص، وله أسباب، وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده، والمراد بالتوبة الرجوع، ولا يتصور الخلو في حق الآدمي عن هذا النقص، وإنما يتفاوتون في المقادير. إن الإنسان من حيث جبل على النقص لا يخلو عما يوجب عليه التوبة،