ولما كان السياق للإمداد بالنعم، ناسبه المد فقال: سيناء قال الحافظ عماد الدين ابن كثير : وهو طور سينين ، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون. وقال صاحب القاموس: والطور : الجبل، وجبل [ ص: 123 ] قرب أيلة يضاف إلى سيناء وسينين ، وجبل بالشام ، وقيل: هو المضاف إلى سيناء ، وجبل بالقدس عن يمين المسجد، وآخر عن قبليه، به قبر هارون عليه السلام ، مجبل برأس العين ، - وآخر مطل على طبرية - انتهى. وهو اسم مركب من الاسمين، وقيل: بل هو مضاف إلى سيناء ، ومعنى سيناء الحسن، وقيل: المبارك، وقيل: هو حجارة معروفة، وقيل شجر، ولعله خصه من بين الأطوار لقربه من المخاطبين أولا بهذا القرآن، وهم العرب ، ولغرابة نبت الزيتون به لأنه في بلاد الحر والزيتون من نبات الأرض الباردة، ولتمحضه لأن يكون نبته مما أنزل من السماء من الماء لعلوه جدا، وبعد من أن يدعي أن ما فيه من النداوة من الماء من البحر لأن الإمام أبا العباس أحمد ابن القاص من قدماء أصحاب حكى في كتابه أدلة القبلة أنه يصعد إلى أعلاه في ستة آلاف مرقاة وستمائة وست وستين مرقاة، قال: وهي مثل الدرج من الصخر، فإذا انتهى إلى مقدار النصف من الطريق يصير إلى مستواه من الأرض فيها أشجار وماء عذب، في هذا الموضع كنيسة على اسم الشافعي إيليا النبي عليه السلام ، وفيه مغار، ويقال: إن إيليا عليه السلام لما هرب من إزقيل الملك اختفى فيه; ثم يصعد من هذا الموضع في الدرج حتى ينتهي إلى قلة الجبل، [ ص: 124 ] وفي قلبه كنيسة بنيت على اسم موسى عليه السلام بأساطين رخام، أبوابها من الصفر والحديد، وسقفها من خشب الصنوبر، وأعلى سقوفها أطباق رصاص قد أحكمت بغاية الإحكام، وليس فيها إلا رجل راهب يصلي ويدخن ويسرج قناديلها، ولا يمكن أحدا أن ينام فيها البتة، وقد اتخذ هذا الراهب لنفسه خارجا من الكنيسة بيتا صغيرا يأوي فيه، وهذه الكنيسة بنيت في المكان الذي كلم الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام، وحواليه - أي حوالي الجبل - من أسفله ستة آلاف ما بين دير وصومعة للرهبان والمتعبدين، كان يحمل إليهم خراج مصر في أيام ملك الروم للنفقة على الديارات وغيرها، وليس اليوم بها إلا مقدار سبعين راهبا يأوون في الدير الذي داخل الحصن، وفي أكثرها يأوي أعراب بني رمادة ، وعلى الجبل مائة صومعة، وأشجار هذا الجبل اللوز والسرو، وإذا هبطت من الطور أشرفت على عقبة تهبط منها فتسير خطوات فتنتهي إلى دير النصراني: حصين عليه سور من حجارة منحوتة ذات شرف عليه بابان من حديد، وفي جوف هذا الدير عين ماء عذب، وعلى هذه العين درابزين من نحاس لئلا يسقط في العين أحد، وقد هيئ براتج رصاص يجري فيها الماء إلى كروم لهم حول الدير، ويقال: إن هذا الدير هو الموضع الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار في الشجرة العليق، وقبلة من بها دبر الكعبة ، وفيه [ ص: 125 ] يقول القائل:
عجب الطور من ثباتك موسى حين ناجاك بالكلام الجليل
والطور من جملة كور مصر ، منه إلى بلد قلزم على البر مسيرة أربعة أيام، ومنه إلى فسطاط مصر مسيرة سبعة أيام - انتهى كلام ، وسألت أنا من له خبرة ابن القاص بالجبل المذكور: هل به أشجار الزيتون؟ فأخبرني أنه لم ير به شيئا منها، وإنما رآها فيما حوله في قرار الأرض، وهي كثيرة وزيتونها مع كبره أطيب من غيره، فإن كان ذلك كذلك فهو أغرب مما لو كانت به، لأنه لعلوه أبرد مما سفل من الأرض، فهو بها أولى، وظهر لي - والله أعلم - أن حكمة تقدير الله تعالى أن يكون عدد الدرج ما ذكر موافقة زمان الإيجاد الأول لمكان الإبقاء الأول، وذلك أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام وهو الإيجاد الأول، وكلم موسى عليه الصلاة والسلام، وكتب له الألواح في هذا الجبل ، ثم أتم له التوراة وهي أعظم الكتب بعد القرآن، وبالكتب السماوية والشرائع الربانية انتظام البقاء الأول، كما سلف في الفاتحة والأنعام والكهف.
ولما ذكر سبحانه إنشاء هذه الشجرة بهذا الجبل البعيد عن مياه البحار لعلوه وصلابته أو بما حوله من الأرض الحارة، ذكر تميزها عن [ ص: 126 ] عامة الأشجار بوجه آخر عجيب فقال: تنبت أي بالماء الذي لا دهن فيه أصلا، نباتا على قراءة الجمهور، أو إنباتا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو عن وورش يعقوب بضم الفوقانية، ملتبسا ثمره بالدهن وهو في الأصل مائع لزج خفيف يتقطع ولا يختلط بالماء الذي هو أصله فيسرج ويدهن به، وكأنه عرفه لأنه أجل الأدهان وأكملها.
ولما كان المأكول منها الدهن والزيتون قبل العصر، عطف إشعارا بالتمكن فقال: وصبغ أي وتنبت بشيء يصبغ - أي يلون - الخبز إذا غمس فيه أو أكل به للآكلين وكأنه نكره لأن في الإدام ما هو أشرف منه وألذ وإن كانت بركته مشهورة; روى عن الإمام أحمد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة"
وللترمذي وابن ماجه في مسنده وتفسيره كما نقله وعبد بن حميد عن ابن كثير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ابن عمر وقال ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من [ ص: 127 ] شجرة مباركة" أبو حيان : وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع.