قال هذه السورة والتي قبلها من أقدم السور المكية، في تهذيب السيرة: قال ابن هشام : حدثني ابن إسحاق عن محمد بن مسلم الزهري أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: قالت: لما نزلنا بأرض أم سلمة بنت أم أمية بن المغيرة الحبشة جاورنا بها خير جار ، أمنا على ديننا وعبدنا الله تبارك وتعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك النجاشي قريشا ائتمروا بينهم - فذكر إرسالهم إليه بهدايا ليردهم إليه، وأن بطارقته كلموه في ذلك، وأنه أبى حتى يسمع كلامهم، وأنه طلبهم فأجمع أمرهم على أن يقولوا الحق كائنا فيه ما كان، فدخلوا وقد دعا أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم به [ ص: 259 ] قومكم ولم تدخلوا به في دين أحد من هذه الملل. قالت: فكان الذي كلمه النجاشي رضي الله عنه فقال: أيها الملك! كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي [منا -] الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم. وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله [وحده -] ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام- [قالت -]: فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان. فلما قهرونا وظلمونا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك! فقال [له -] جعفر بن أبي طالب : هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ فقال له النجاشي جعفر : نعم! فقال له : فاقرأه علي فقرأ عليه صدرا من كهيعص، فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا [ ص: 260 ] عليهم; ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به النجاشي موسى ليخرج من مشكاة واحدة، ثم ذكر تأمينه لهم ورد هدايا قريش ورسلهم خائبين. وقال : وقال ابن هشام : فحدثني ابن إسحاق عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت أبي حثمة رضي الله عنها قالت: والله! إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر رضي الله عنه في بعض حاجاتنا إذ أقبل حتى وقف علي وهو على شركه، وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا، فقال: إنه الانطلاق يا أم عمر بن الخطاب عبد الله ؟ قلت: نعم! والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا، فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا، فجاء عامر رضي الله عنه بحاجته تلك فقلت له: يا أبا عبد الله ! لو رأيت آنفا ورقته وحزنه علينا! قال: أطمعت في إسلامه؟ قلت: نعم! قال: يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار عمر الخطاب - يأسا منه- لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام، قال : وكان إسلام ابن إسحاق فيما بلغني عمر أن أخته فاطمة بنت الخطاب، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهم، وكانت قد أسلمت وأسلم زوجها وهم مستخفون بإسلامهم من سعيد بن زيد ، وكان عمر نعيم بن عبد الله بن النحام - رجل من قومه بني عدي بن كعب - قد أسلم رضي الله عنه، [ ص: 261 ] وكان أيضا يستخفي بإسلامه فرقا من قومه، وكان رضي الله عنه يختلف إلى خباب بن الأرت فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها يقرئها القرآن، فخرج يوما متوشحا بسيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه رضي الله عنهم قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند عمر الصفا وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق في رجال من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله رضي الله عنه فقال: أين تريد يا ؟ قال أريد عمر محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله، فقال له نعيم رضي الله عنه: والله! لقد غرتك نفسك من نفسك يا ! أترى عمر بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما فرجع عامدا إلى أخته وختنه وعندهما عمر رضي الله عنه وعنهما، معه صحيفة فيها طه يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس خباب بن الأرت تغيب [ ص: 262 ] عمر رضي الله عنه في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت خباب بن الأرت فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع حين دنا من البيت قراءة عمر عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا؟ قال: بلى! والله لقد أخبرت أنكما تابعتما خباب محمدا على دينه، وبطش بختنه رضي الله عنه فقامت إليه أخته سعيد بن زيد فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه رضي الله عنهما: نعم! قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك! فلما رأى [ما -] بأخته من الدم ندم على [ما -] صنع [فارعوى -] وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به عمر محمد؟ وكان كاتبا، فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له: يا أخي! إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فقرأها، فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك عمر رضي الله عنه خرج إليه فقال له: [يا -] خباب ! والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فإني سمعته [أمس -] وهو يقول: اللهم! أيد الإسلام عمر بأبي الحكم بن هشام أو فالله الله يا بعمر بن الخطاب ! فقال له عمر عند ذلك: فدلني [ ص: 263 ] يا عمر على خباب محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له هو في بيت عند خباب: الصفا، معه فيه نفر من أصحابه، فأخذ سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خلال الباب فرآه متوشحا السيف فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال: يا رسول الله! هذا عمر متوشحا السيف! فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن له، فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة وقال: ما جاء بك يا حمزة بن عبد المطلب ! فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال ابن الخطاب : يا رسول الله! جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم، فتفرق أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من مكانهم، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتصفون [ ص: 264 ] بهما من عدوهم، حمزة فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام رضي الله عنه حين أسلم. وكان إسلام عمر بعد إسلام عمر رضي الله عنهما بثلاثة أيام، كما ثبت ذلك في حاشية شرح العقائد عن فوائد تمام حمزة الرازي، وصفوة الصفوة لابن الجوزي; قال : قال ابن هشام : وحدثني ابن إسحاق رضي الله عنهما قال: لما أسلم نافع مولى عبد الله بن عمر قال: أي عمر قريش أنقل للحديث؟ قال: قيل له: جميل بن معمر الجمحي، فغدا عليه، قال رضي الله عنهما: وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت حتى جاءه فقال له: أعلمت يا عبد الله بن عمر جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه. واتبعه رضي الله عنه واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر عمر قريش! وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا! إن قد صبأ قال: يقول ابن الخطاب رضي الله عنه من خلفه: كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن عمر محمدا عبده ورسوله، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم [قال -]: وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف [ ص: 265 ] بالله أن لو [كنا -] ثلاثمائة رجل لقد تركناها أو تركتموها لنا، قال: فبينما هو على ذلك إذ أقبل شيخ منقريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ ، قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون عمر بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم؟ هكذا عن الرجل! قال: فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه. وفي الروض الأنف للإمام أبي القاسم السهيلي أن يونس روى عن أن ابن إسحاق قال حين أسلم رضي الله عنه: عمر
الحمد لله ذي المن الذي وجبت له علينا أياد ما لها غير
وقد بدأنا فكذبنا فقال لنا
صدق الحديث نبي عنده الخبر
وقد ظلمت ابنة الخطاب ثم هدى
ربي عشية قالوا قد صبا عمر
وقد ندمت على ما كان من زلل
بظلمها حين تتلى عندها السور
لما دعت ربها ذا العرش جاهدة
والدمع من عينها عجلان يبتدر
أيقنت أن الذي تدعوه خالقها
فكاد يسبقني من عبرة درر
فقلت أشهد أن الله خالقنا
وأن أحمد فينا اليوم مشتهر
نبي صدق أتى بالحق من ثقة
وافي الأمانة ما [في -] عوده خور
إذا تقرر هذا، علم أن المقصود من السورة - كما تقدم - تشريف [ ص: 266 ] هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بإعلامه بالرفق بأمته، والإقبال بقلوبهم حتى يملؤوا الأرض كثرة، كما أنزل عليهم السكينة وهم في غاية الضعف والقلة، وحماهم ممن يريد قتلهم، ولين قلب رضي الله عنه بعد ما كان فيه من الغلظة وجعله وزيرا، ثم حماه بعدوه، وتأمينه صلى الله عليه وسلم من أن يستأصلوا بعذاب، وبأنه يموت نبيهم قبلهم لا كما وقع للمهلكين من قوم عمر نوح وهود عليهما السلام ومن بعدهم - بما دل عليه افتتاح هذه بنفي الشقاء وختم تلك بجعل الود وغير ذلك، والداعي إلى هذا التأمين أنه سبحانه لما ختم تلك بإهلاك القرون وإبادة الأمم بعد إنذار القوم اللد، ولم يختم سورة من السور الماضية بمثل ذلك، [كان -] ربما أفهم أنه قد انقضت مدتهم، وحل بوارهم، وأتى دمارهم، وأنه لا يؤمن منهم - لما هم فيه من اللدد - إلا من قد آمن، فحصل بذلك من الغم والحزن ما لا يعلم قدره إلا الله، لأن الأمر كان في ابتدائه، ولم يسلم منهم إلا نفر يسير جدا، فسكن سبحانه الروع بقوله: