ولما قدم - سبحانه - في هذه السورة حكاية كثير من استهزائهم بوعده؛ ووعيده؛ وتكذيبهم لرسله؛ على أبشع وجه؛ والتفتير عن حرقة الحرص عليهم؛ المفضي إلى شدة التأسف على ضلالهم؛ وغير ذلك مما ربما أيأس منهم؛ فأقعد عن دعائهم؛ وأتبعه ضرب الأمثال؛ ونصب الجدال - على تلك المناهج المعجزة؛ بما يسبق من ظواهرها إلى الفهم عند قرع السمع من المعاني الجليلة؛ والمقاصد الجميلة - لعامة الخلق؛ ما يجل عن الوصف؛ وإذا تأملها الخواص وجدوا فيها من دقائق الحقائق؛ ومشارع الرقائق؛ ومحكم الدلائل؛ ومتقن المقاصد والوسائل؛ ما يوضح - بتفاوت الأفهام؛ وتباين الأفكار - أنه بحر لا ساحل له؛ ولا قرار؛ ولا منتهى لما تستخرج منه الأنظار؛ وختم باتباع الأب الأعظم؛ لما كان ذلك؛ وأمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهو السميع المطيع؛ أن يستن بآثاره؛ ويقتدي بإضماره وإظهاره؛ فسر [ ص: 279 ] له تلك الملة التي أمره باتباعها؛ فقال (تعالى): ادع ؛ أي: كل من تمكن دعوته؛ إلى سبيل ربك ؛ أي: المحسن إليك؛ بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه؛ واتساعه؛ وهو الإسلام؛ الذي هو الملة الحنيفية؛ بالحكمة ؛ وهي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن؛ والقبح؛ والصلاح؛ والفساد؛ وقيل لها "حكمة"؛ لأنها بمنزلة المانع من الفساد؛ وما لا ينبغي أن يختار؛ فالحكيم هو العالم بما يمنع من الفساد؛ قاله وهي في الحقيقة الحق الصريح؛ فمن كان أهلا له دعا به؛ الرماني؛ والموعظة ؛ بضرب الأمثال؛ والوعد؛ والوعيد؛ مع خلط الرغبة بالرهبة؛ والإنذار بالبشارة؛ الحسنة ؛ أي: التي يسهل على كل فهم ظاهرها؛ ويروق كل نحرير ما ضمنته سرائرها؛ مع اللين في مقصودها؛ وتأديتها هذا لمن لا يحتمل إلا ذلك؛ وجادلهم ؛ أي: الذين يحتملون ذلك منهم؛ افتلهم عن مذاهبهم الباطلة إلى مذهبك الحق بطريق الحجاج؛ بالتي هي أحسن ؛ من الطرق؛ بالترفق؛ واللين؛ والوقار؛ والسكينة؛ ولا تعرض عنهم؛ [ ص: 280 ] يأسا منهم؛ ولا تجازهم بسيئ مقالهم؛ وقبيح فعالهم؛ صفحا عنهم؛ ورفقا بهم؛ فهو بيان لأصناف الدعوة؛ بحسب عقول المدعوين؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - مأمورون بأن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم؛ وقيل: الدعوة إن كانت لتقرير الدين وتثبيت الاعتقاد في قلوب أهله - وهي مع ذلك يقينية مطهرة عن احتمال نقيض - فهي الحكمة؛ وهي لطالب الحق المذعن إن كان مستعدا للقبول بفكره الثاقب؛ وإن كانت مقارنة لاحتمال النقيض مفيدة للظن والإقناع؛ فهي الموعظة؛ وهي للمذعن الذي لا استعداد له؛ وإن كانت لإلزام الجاحدين؛ وإفحام المعاندين؛ فهي المجادلة؛ فإن كانت مركبة من مقدمات مسلمة عند الجمهور؛ أو عند الخصم فقط؛ فهي الحسنة؛ وإن كانت من مقدمات كاذبة غير مسلمة يراد ترويجها بالحيل الباطلة؛ والطرق الفاسدة؛ فهي السيئة التي لا تليق بمنصف; ثم علل الملازمة لدعائهم على هذا الوجه؛ بقوله (تعالى): إن ربك ؛ أي: المحسن إليك بالتخفيف عنك؛ هو ؛ أي: وحده؛ أعلم ؛ أي: من كل من يتوهم فيه علم؛ بمن ضل عن سبيله ؛ فكان في أدنى درجات الضلال - وهو أعلم بالضالين؛ الراسخين في الجور عن الطريق - [ ص: 281 ] فلا انفكاك له عن الضلال؛ وهو أعلم بمن اهتدى لسبيله؛ فكان في أدنى درجات الهداية؛ وهو ؛ أي: خاصة؛ أعلم بالمهتدين ؛ أي: الذين هم في النهاية منها؛ فالآية من الاحتباك: ذكر أولا "من ضل"؛ دليلا على حذف ضده ثانيا؛ و"المهتدين"؛ ثانيا؛ دليلا على حذف ضدهم أولا.
وأما أنت فلا علم لك بشيء من ذلك؛ إلا بإعلامنا؛ وقد ألزمناك البلاغ المبين؛ فلا تفتر عنه معرضا عن الحرص المهلك؛ واليأس؛ فإنه ليس عليك هداهم.