[ ص: 105 ] ولما ذكر سبحانه الحج في هذه السورة المدنية وكان سبيله إذ ذاك ممنوعا عن أهل الإسلام بأهل الحرب الذين أخرجوهم من بلدهم ومنعوهم من المسجد الذي هم أحق به من غيرهم وكان الحج من الجهاد وكان كل من الصوم والجهاد تخليا من الدنيا سياحة أمتي الصوم، ورهبانية أمتي الجهاد وكانت أمهات العبادات موقتة وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير موقتة وهي الذكر والجهاد وهو قتال أهل الحرب خلافا لما كان عند أهل الجاهلية من توقيته مكانا بغير الحرم وزمانا بغير الأشهر الحرم وكان القتال في الأشهر الحرم وفي الحرم في غاية المنع فكيف عند المسجد وكان سبحانه قد ذكر العبادات الموقتة أتبعها بغير الموقتة وهي الجهاد الذي هو حظيرة الموقتة الذي لا سلامة لها بدونه التفاتا إلى الظالمين بالمنع عن المسجد الحرام والإخراج منه فأمر بأن يفعل معهم مثل ما فعلوا من القتال والإخراج فعل الحكيم الذي يوصي بالشيء العظيم فهو يلقيه بالتدريج في أساليب البلاغة وأفانين البيان تشويقا إليه وتحريضا عليه بعد أن أشار لأهل هذا الدين أولا بأنه يخزي ظالميهم وثانيا بأن المقتول منهم حي يرزق [ ص: 106 ] وثالثا بمدحهم على بأنهم الذين صدقوا وأنهم المتقون فلما شوقهم إلى جهاد أهل البغي والعناد ألزمهم القتال بصيغة الأمر لتيسير باب الحج الذي افترضه وسبيله ممنوع بأهل الحرب فقال تعالى وقيل: إنها أول آية نزلت في القتال، قاله الصبر في مواطن البأس الأصبهاني : وقاتلوا في سبيل الله أي الذي لا كفؤ له إشعارا بذكره على سبيل الإطلاق بعد الموقت بالهلال إلى أنه غير موقت به.
قال : من حيث إنه حظيرة على دين الإسلام المقيد بالمواقيت من [ ص: 107 ] حيث إن الإسلام عمل يقيده الوقت، والدفع عنه أمر لا يقيده وقت بل أيان طرق الضر لبناء الإسلام دفع عنه كما هو حكم الدفع في الأمور الدينية، فكانت الصلاة لمواقيت اليوم والليلة، والصوم والحج لمواقيت الأهلة، والزكاة لميقات الشمس، والجهاد لمطلق الميقات حيث ما وقع من مكان وزمان ناظرا بوجه ما لما يقابله من عمود الإسلام الذي هو ذكر كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله على الدوام الحرالي يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم انتهى.
وقال الذين يقاتلونكم أي من شأنهم قتالكم لا من ليس شأنه ذلك كالصبيان; وفيه إشعار بأن القتال عن سبب المقاتلة فهو مما يفعل عن سبب لا مما يفعل لوقت، وصيغة المضارع لم يقصد بها إلا صدور الفعل من غير نظر إلى زمان مخصوص كما قالوه في أمثاله.
ولما كان الله سبحانه وتعالى قد أوجب العدل في كل [ ص: 108 ] شيء حتى في حق أعدائه قال: ولا تعتدوا فنظم ذلك ابتداء القتال لمن لم يبح له ابتداءه به إما بعهد أو بغير دعوة لمن لم يبلغه أمر الدين أو بغير ذلك من أنواع الخيانة والغدر وقتل النساء والصبيان والشيوخ الفانين الذين لا منعة فيهم ولا رأي لهم، ودوام القتال لمن ألقى السلم بعد الابتداء به، فحذف المتعلق اختصارا فأفاد زيادة المعنى وهو من غريب أفانين البلاغة وكأنه أفهم بصيغة الافتعال التقييد بالتعمد، ثم علل ذلك بقوله: إن الله أي لما له من صفات الكمال لا يحب المعتدين مطلقا في هذا وغيره، أي لا يفعل بهم من الخير فعل المحب.