ولما ذكر - سبحانه - هذا الأمر العام؛ ونبه على ما فيه من غريب الصنع؛ الذي غفل عنه لشدة الإلف به؛ أتبعه بعض ما ينشأ عنه من تفاصيل الأمور؛ المحتوية على عجائب المقدور؛ وبدأ بأعمها؛ وأشدها ملابسة لهم؛ وأكثرها في نفسه؛ وأعظمها منفعة ودخلا في قوام عيشهم؛ فقال: وإن لكم ؛ أي: أيها المخاطبون المغمورون في النعم؛ في الأنعام ؛ ولما كانت الأدلة يعبر بها من الجهل [ ص: 193 ] إلى العلم؛ قال: لعبرة ؛ فكأنه قيل: ما هي؟ فقيل: نسقيكم ؛ بضم النون؛ في قراءة الجماعة؛ من "أسقاه"؛ إذا أعد له ما يشربه دائما؛ من نهر؛ أو لبن؛ وغيرهما؛ وبالفتح؛ في قراءة نافع؛ وابن عامر؛ في رواية وعاصم؛ من "سقاه"؛ إذا ناوله شيئا فشربه. شعبة:
ولما كان "الأنعام"؛ اسم جمع؛ فكان مفردا؛ كما نقل ذلك وذكر سيبويه؛ المسقي؛ وهو اللبن؛ لما اقتضاه سياق السورة من تعداد النعم؛ فتعينت إرادة الإناث لذلك؛ فانتفى الالتباس مع تذكير الضمير؛ قال (تعالى): مما ؛ أي: من بعض الذي؛ في بطونه ؛ فذكر الضمير لأمن اللبس؛ والدلالة على قوة المعنى؛ لكونها سورة النعم؛ بخلاف ما في "المؤمنون".
ولما كان موضع العبرة تخليص اللبن من غيره؛ قدم قوله (تعالى): من بين فرث ؛ وهو الثفل الذي ينزل إلى الكرش؛ فإذا خرج منه لم يسم فرثا؛ ودم لبنا خالصا ؛ من مخالط منهما؛ أو من غيرهما؛ [ ص: 194 ] يبغي عليه بلون أو رائحة; عن - رضي الله عنهما -: إذا أكلت البهيمة العلف؛ واستقر في كرشها؛ طبخته؛ فكان أسفله فرثا؛ وأوسطه لبنا؛ وأعلاه دما؛ والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها؛ فيجري الدم في العروق؛ واللبن في الضرع؛ ويبقى الفرث في الكرش؛ ابن عباس سائغا ؛ أي: سهل المرور في الحلق؛ للشاربين ؛