كما أي : وجهناكم إلى الكعبة لهذه العلل أرسلنا أي : بعظمتنا فيكم لأجل ذلك بعينه ولئلا تقولوا ما كانوا يقولون من أنكم لا حرمة لكم لإشراككم ولا إثم على من آذاكم فيتم عليكم النعمة بإرسال من يستنقذكم اتباعه من الجهل والذل في الدنيا ومن العذاب في الأخرى رسولا متصفا بأنه منكم تعرفون من صفته العلية وهممه الشم الحاملة على اتباعه والتيمن برأيه ما لا يعرفه غيركم يتلو عليكم [ ص: 240 ] آياتنا الحافظة لمن رعاها حق رعايتها على الصراط المستقيم عوضا من تناشدكم الأشعار . قال : وفيه أخذهم بما هو في طباعهم من إيثار أمر السمع على أمر العين الذي عليه جبلت الحرالي العرب ، لأنها أمة تؤثر مسموع المدح والثناء من الخلق على ما تناله من الراحة فتجهد في طلب الثناء من الخلق ما لم تجهد أمة غيرها ، فكيف بها إذا كان ما دعيت إليه ثناء الحق عليها وتخليد ذلك لها في كلام هو كلام ربها . فتنال بذلك ما هو فوق مقصودها مما جبلت عليه من إيثار السماع على العين بخلاف ما عليه سائر الأمم ; ثم قال : وفيه إغناء العرب عن إعمال أفكارها في تكسب العلم والحكمة لتستخرج منه أحكاما ، فكان في تلاوة الآيات عليهم إغناؤهم عن الاستدلال بالدلائل وأخذ الأمور بالشواهد وتولي الله ورسوله تعليمهم ليكون شرف المتعلم بحسب علاء من علمه ، العرب على سائر العلماء كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على معلمهم ممن سواه صلى الله عليه وسلم . انتهى . ففضل علماء
[ ص: 241 ] ولما كان السياق لفعل من الأفعال وهو التوجه إلى البيت للصلاة وكانت الصلاة أعظم مطهر للقبول من أوضار الأدناس قدم قوله : ويزكيكم أي : يطهركم في أقوالكم وأفعالكم وينميكم بإنعاش قلوبكم لتشرف بالمعاني الصالحة والأخلاق الطاهرة الموجبة للفوز الدائم والنجاة عما دنس اليهود وأوجب لهم الضلال من مرض القلب بإنكار النسخ وكتم الحق وإفشاء الباطل المثمر مع الضلال للإضلال . قال : أنبأهم بأن هذا التنزيل لأنفسهم بمنزلة الغذاء للأبدان ، فكما تتنامى أجسادهم بماء المزن وما منه فكذلك تتنامى أنفسهم بأحكام الكتاب وتلاوة الآيات ، وذلك زكاؤها ونماؤها ، لتتأكد فيه رغبتهم ، لأن للمغتذي [ ص: 242 ] رغبة في الغذاء إذا تحققه ، فمن علم أن التزام الأحكام غذاء لنفسه حرص عليها ، ومتى نمت النفس وزكت قويت على ما شأنها أن تناله قواها ، كما أن البدن إذا قوي بالغذاء تمكن مما شأنه عمله . انتهى . الحرالي ويعلمكم الكتاب المقيم للدين والدنيا . قال : أي : الفقه فيه الحرالي والحكمة دقائق الإشارات الشافية لأمراض القلوب المانعة من اتباع الهوى . قال : فخص الحرالي من عموم تعليم الكتاب ، لأن التوسل بالأحكام جهد عمل والتوسل بعلم الحكمة يسر منال عقل ، لأن الحكمة منال الأمر الذي فيه عسر بسبب فيه يسر فينال الحكيم بحكمته لاطلاعه على إفضاء مجعول الأسباب بعضها لبعض مما بين أسباب عاجل الدنيا ومسببات آجل الآخرة ما لا يصل إليه جهد العامل الكادح وفي تكملة الكتاب والحكمة بكلمة "أل" إنهاء إلى الغاية الجامعة لكل كتاب وحكمة بما يعلمه الأولون والآخرون . ثم قال : [ ص: 243 ] وبذلك كان صلى الله عليه وسلم يتكلم في علوم الأولين بكلمات يعجز عنها إدراك الخلق نحو قوله صلى الله عليه وسلم : تعليم الحكمة "استاكوا بكل عود ما خلا الآس والرمان فإنهما يهيجان عرق الجذام" لأن الخلق لا يستطيعون حصر كليات المحسوسات ، غاية إدراكهم حصر كليات المعقولات ، ومن استجلى أحواله صلى الله عليه وسلم علم اطلاع حسه على إحاطة المحسوسات وإحاطة حكمها وألسنتها ناطقها وأعجمها حيها وجمادها جمعا ، لما في العادة حكمة ولما في خرق العادة آية ; ثم قال : فعلى قدر ما وهب الله سبحانه وتعالى العبد من العقل يعلمه من الكتاب والحكمة ، يؤثر عن رضي الله تعالى عنه أنه قال : عمر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم رضي الله عنه فكأنما يتكلمان بلسان أعجمي لا أفهم مما يقولان شيئا" أبا بكر ولما كان انتهاء ما في الكتاب عند هذه الغاية أنبأ تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم [ ص: 244 ] يعلمهم ما لم يكن في كتابهم مثال علمه . ففيه إشعار بفتح وتجديد فطرة يترقون لها إلى ما لم يكن في كتابهم علمه . انتهى . وذلك لأن استعمال الحكمة موجب للترقي فقال تعالى : ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون أي : من الاستنباط من الكتاب من المعارف بما يدريكم به من الأقوال والأفعال ويسلككم فيه من طرق الخير الكاشفة لظلام الظلم الجالية لمرأى الأفكار المنورة لبصائر الاعتبار .