تفسير سورة المزمل
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا
المزمل: المتغطي بثيابه كالمدثر، وهذا الوصف حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أكرمه الله برسالته، وابتدأه بإنزال وحيه بإرسال جبريل إليه، فرأى أمرا لم ير مثله، ولا يقدر على الثبات عليه إلا المرسلون، فاعتراه عند ذلك انزعاج حين رأى جبريل عليه السلام، فأتى إلى أهله، فقال:" زملوني زملوني" وهو ترعد فرائصه، ثم جاءه جبريل فقال:" اقرأ" فقال:" ما أنا بقارئ" فغطه حتى بلغ منه الجهد، وهو يعالجه على القراءة، فقرأ صلى الله عليه وسلم، ثم ألقى الله عليه الثبات، وتابع عليه الوحي، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين.
فسبحان الله، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها، ولهذا [ ص: 1898 ] خاطبه الله بهذا الوصف الذي وجد منه في أول أمره.
فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به، ثم أمره بالصبر على أذية قومه ، ثم أمره بالصدع بأمره، وإعلان دعوتهم إلى الله، فأمره هنا بأشرف العبادات، وهي الصلاة، وبآكد الأوقات وأفضلها، وهو قيام الليل.
بل قال: ومن رحمته تعالى، أنه لم يأمره بقيام الليل كله، قم الليل إلا قليلا .
ثم قدر ذلك فقال: نصفه أو انقص منه أي: من النصف قليلا بأن يكون الثلث ونحوه.
أو زد عليه أي: على النصف، فيكون نحو الثلثين. ورتل القرآن ترتيلا فإن فإنه قال: ترتيل القرآن به يحصل التدبر والتفكر، وتحريك القلوب به، والتعبد بآياته، والتهيؤ والاستعداد التام له، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل، أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه، وما كان بهذا الوصف، حقيق أن يتهيأ له، ويرتل، ويتفكر فيما يشتمل عليه.
ثم ذكر فقال: الحكمة في أمره بقيام الليل، إن ناشئة الليل أي: الصلاة فيه بعد النوم هي أشد وطئا وأقوم قيلا أي: أقرب إلى حصول مقصود القرآن، يتواطأ على القرآن القلب واللسان، وتقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره، وهذا بخلاف النهار، فإنه لا يحصل به هذه المقاصد ، ولهذا قال: إن لك في النهار سبحا طويلا أي: ترددا في حوائجك ومعاشك، يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ التام.
واذكر اسم ربك شامل لأنواع الذكر كلها وتبتل إليه تبتيلا أي: انقطع إليه ، فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وما يقرب إليه، ويدني من رضاه.
رب المشرق والمغرب وهذا اسم جنس يشمل المشارق والمغارب كلها ، فهو تعالى رب المشارق والمغارب، وما يكون فيها من الأنوار، وما هي [ ص: 1899 ] مصلحة له من العالم العلوي والسفلي، فهو رب كل شيء وخالقه ومدبره.
لا إله إلا هو أي: ، ولهذا قال: لا معبود إلا وجهه الأعلى، الذي يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم، والإجلال والتكريم فاتخذه وكيلا أي: حافظا ومدبرا لأمورك كلها.
فلما أمره الله بالصلاة خصوصا، وبالذكر عموما، وذلك يحصل للعبد ملكة قوية في تحمل الأثقال، وفعل المشق من الأعمال، وأن يمضي على أمر الله، لا يصده عنه صاد، ولا يرده راد، أمره بالصبر على ما يقوله المعاندون له ويسبونه ويسبون ما جاء به، وأن يهجرهم هجرا جميلا وهو الهجر حيث اقتضت المصلحة الهجر الذي لا أذية فيه، فيقابلهم بالهجر والإعراض عن أقوالهم التي تؤذيه، وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن.
وذرني والمكذبين أي: اتركني وإياهم، فسأنتقم منهم، وإن أمهلتهم فلا أهملهم، وقوله: أولي النعمة أي: أصحاب النعمة والغنى، الذين طغوا حين وسع الله عليهم من رزقه، وأمدهم من فضله كما قال تعالى: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى .
ثم توعدهم بما عنده من العقاب، فقال: