يكاد البرق : استئناف آخر؛ وقع جوابا عن سؤال مقدر؛ كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد ذلك يخطف أبصارهم ؛ أي يختلسها ويستلها بسرعة؛ و"كاد" من أفعال المقاربة؛ وضعت لمقاربة الخبر من الوجود؛ لتآخذ أسبابه؛ وتعاضد مباديه؛ لكنه لم يوجد بعد؛ لفقد شرط؛ أو لعروض مانع؛ ولا يكون خبرها إلا مضارعا؛ عاريا عن كلمة "أن"؛ وشذ مجيئه اسما صريحا؛ كما في قوله:
... فأبت إلى فهم وما كدت آيبا
وكذا مجيئه مع "أن"؛ حملا لها على "عسى"؛ كما في قول رؤبة:
... قد كاد من طول البلى أن يمحصا
كما تحمل [ ص: 55 ] هي عليها بالحذف؛ لما بينهما من المقارنة في أصل المقاربة؛ وليس فيها شائبة الإنشائية؛ كما في "عسى"؛ وقرئ: "يخطف"؛ بكسر الطاء؛ و"يختطف"؛ و"يخطف"؛ بفتح الياء والخاء؛ بنقل فتحة التاء إلى الخاء؛ وإدغامها في الطاء؛ و"يخطف"؛ بكسرهما؛ على إتباع الياء والخاء؛ و"يخطف"؛ من صيغة التفعيل؛ و"يتخطف"؛ من قوله (تعالى): ويتخطف الناس من حولهم .
كلما أضاء لهم : "كل": ظرف؛ و"ما" مصدرية؛ والزمان محذوف؛ أي: كل زمان إضاءة؛ وقيل: "ما" نكرة موصوفة؛ معناها: الوقت؛ والعائد محذوف؛ أي: كل وقت أضاء لهم فيه؛ والعامل في "كلما" جوابها؛ وهو استئناف ثالث؛ كأنه قيل: ما يفعلون في أثناء ذلك الهول؟ أيفعلون بأبصارهم ما فعلوا بآذانهم؛ أم لا؟ فقيل: كلما نور البرق لهم ممشى ومسلكا - على أن "أضاء" متعد؛ والمفعول محذوف -؛ أو كلما لمع لهم - على أنه لازم؛ ويؤيده قراءة "كلما ضاء" -؛ مشوا فيه ؛ أي في ذلك المسلك؛ أو في مطرح نوره؛ خطوات يسيرة؛ مع خوف أن يخطف أبصارهم؛ وإيثار المشي على ما فوقه من السعي والعدو للإشعار بعدم استطاعتهم لهما؛ وإذا أظلم عليهم : أي خفي البرق؛ واستتر؛ والمظلم وإن كان غيره لكن لما كان الإظلام دائرا على استتاره أسند إليه مجازا؛ تحقيقا لما أريد من المبالغة في موجبات تخبطهم؛ وقد جوز أن يكون متعديا؛ منقولا من "ظلم الليل"؛ ومنه ما جاء في قول أبي تمام:
هما أظلما حالي ثمت أجليا ... ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب
ويعضده قراءة "أظلم"؛ على البناء للمفعول؛ قاموا ؛ أي وقفوا في أماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة؛ متحيرين؛ مترصدين لخفقة أخرى؛ عسى يتسنى لهم الوصول إلى المقصد؛ أو الالتجاء إلى ملجإ يعصمهم؛ وإيراد "كلما" مع الإضاءة؛ و"إذا" مع الظلام؛ للإيذان بأنهم حراص على المشي؛ مترقبون لما يصححه؛ فكلما وجدوا فرصة انتهزوها؛ ولا كذلك الوقوف؛ وفيه من الدلالة على كمال التحير؛ وتطاير اللب ما لا يوصف. ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم : كلمة "لو" لتعليق حصول أمر ماض؛ هو الجزاء؛ بحصول أمر مفروض فيه؛ هو الشرط؛ لما بينهما من الدوران حقيقة؛ أو ادعاء؛ ومن قضية مفروضية الشرط دلالتها على انتفائه قطعا؛ والمنازع فيه مكابر؛ وأما دلالتها على انتفاء الجزاء فقد قيل؛ وقيل.. والحق الذي لا محيد عنه أنه إن كان ما بينهما من الدوران؛ كليا أو جزئيا؛ قد بني الحكم على اعتباره؛ فهي دالة عليه بواسطة مدلولها الوضعي لا محالة؛ ضرورة استلزام انتفاء العلة لانتفاء المعلول؛ أما في مادة الدوران الكلي - كما في قوله - عز وجل -: ولو شاء لهداكم أجمعين ؛ وقولك: لو جئتني لأكرمتك؛ فظاهر؛ لأن وجود المشيئة علة لوجود الهداية حقيقة؛ ووجود المجئ علة لوجود الإكرام ادعاء؛ وقد انتفيا بحكم المفروضية؛ فانتفى معلولاهما حتما؛ ثم إنه قد يساق الكلام لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط؛ كما في المثالين المذكورين؛ وهو الاستعمال الشائع لكلمة "لو"؛ ولذلك قيل: هي لامتناع الثاني؛ لامتناع الأول؛ وقد يساق للاستدلال بانتفاء الثاني؛ لكونه ظاهرا؛ أو مسلما على ابتغاء الأول؛ لكونه خفيا؛ أو متنازعا فيه؛ كما في قوله - سبحانه -: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ؛ وفي قوله (تعالى): لو كان خيرا ما سبقونا إليه ؛ فإن فسادهما لازم لتعدد الآلهة حقيقة؛ وعدم سبق المؤمنين إلى الإيمان لازم لخيريته؛ في زعم الكفرة؛ ولا ريب في انتفاء اللازمين؛ فتعين انتفاء الملزومين؛ حقيقة في الأول؛ وادعاء باطلا في الثاني؛ ضرورة استلزام انتفاء اللازم لانتفاء الملزوم؛ لكن لا بطريق السببية الخارجية؛ كما في المثالين الأولين؛ بل بطريق الدلالة العقلية الراجعة إلى سببية العلم بانتفاء الثاني؛ للعلم بانتفاء الأول؛ ومن لم يتنبه له زعم أنه لانتفاء الأول لانتفاء الثاني؛ وأما [ ص: 56 ] في مادة الدوران الجزئي - كما في قولك: لو طلعت الشمس لوجد الضوء -؛ فلأن الجزاء المنوط بالشرط الذي هو طلوعها ليس وجود أي ضوء كان؛ كضوء القمر المجامع لعدم الطلوع مثلا؛ بل إنما وجود الضوء الخاص الناشئ من الطلوع؛ ولا ريب في انتفائه بانتفاء الطلوع؛ هذا إذا بني الحكم على اعتبار الدوران؛ وأما إذا بني على عدمه فإما أن يعتبر هناك تحقق مدار آخر له؛ أو لا؛ فإن اعتبر فالدلالة تابعة لحال المدار؛ فإن كان بينه وبين انتفاء الأول منافاة تعين الدلالة؛ كما إذا قلت: لو لم تطلع الشمس يوجد الضوء؛ فإن وجود الضوء؛ وإن علق صورة بعدم الطلوع؛ لكنه في الحقيقة بسبب آخر؛ له ضرورة؛ أن عدم الطلوع - من حيث هو هو - ليس مدارا لوجود الضوء في الحقيقة؛ وإنما وضع موضع المدار؛ لكونه كاشفا عن تحقق مدار آخر له؛ فكأنه قيل: لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء بسبب آخر؛ كالقمر مثلا؛ ولا ريب في أن هذا الجزاء منتف عند انتفاء الشرط؛ لاستحالة وجود الضوء القمري عند طلوع الشمس؛ وإن لم يكن بينهما منافاة تعين عدم الدلالة؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في بنت أبي سلمة: فإن المدار المعتبر في ضمن الشرط - أعني كونها ابنة أخيه - عليه الصلاة والسلام - من الرضاعة - غير مناف لانتفائه؛ الذي هو كونها ربيبته - عليه الصلاة والسلام -؛ بل مجامع له؛ ومن ضرورته مجامعة أثريهما؛ أعني الحرمة الناشئة من كونها ربيبته - عليه الصلاة والسلام -؛ والحرمة الناشئة من كونها ابنة أخيه من الرضاعة؛ وإن لم يعتبر هناك تحقق مدار آخر؛ بل بني الحكم على اعتبار عدمه؛ فلا دلالة لها على ذلك أصلا؛ كيف لا.. ومساق الكلام حينئذ لبيان ثبوت الجزاء على كل حال؛ بتعليقه بما ينافيه؛ ليعلم ثبوته عند وقوع ما لا ينافيه بالطريق الأولى؛ كما في قوله - عز وجل -: "لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي؛ إنها لابنة أخي من الرضاعة"؛ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم ؛ وقوله - عليه الصلاة والسلام -: فارس"؛ وقول "لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من - رضي الله عنه -: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا؟ فإن الأجزية المذكورة قد نيطت بما ينافيها؛ ويستدعي نقائضها؛ إيذانا بأنها في أنفسها؛ بحيث يجب ثبوتها مع فرض انتفاء أسبابها؛ أو تحقق أسباب انتفائها؛ فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة "لو" الوصلية؛ في مثل قوله (تعالى): علي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار - ولها تفاصيل وتفاريع حررناها في تفسير قوله (تعالى): قال أولو كنا كارهين -؛ وقول - رضي الله عنه -: نعم العبد عمر لو لم يخف الله لم يعصه؛ إن حمل على تعليق عدم العصيان؛ في ضمن عدم الخوف؛ بمدار آخر؛ نحو الحياء والإجلال؛ وغيرهما؛ مما يجامع الخوف؛ كان من قبيل حديث ابنة صهيب؛ أبي سلمة؛ وإن حمل على بيان استحالة عصيانه مبالغة؛ كان من هذا القبيل؛ والآية الكريمة واردة على الاستعمال الشائع؛ مفيدة لكمال فظاعة حالهم؛ وغاية هول ما دهمهم من المشاق؛ وأنها قد بلغت من الشدة إلى حيث لو تعلقت مشيئة الله (تعالى) بإزالة مشاعرهم؛ لزالت لتحقق ما يقتضيه اقتضاء تاما. وقيل: كلمة "لو" فيها لربط جزائها بشرطها؛ مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر؛ بمنزلة كلمة "إن"؛ ومفعول المشيئة محذوف؛ جريا على القاعدة المستمرة؛ فإنها إذا وقعت شرطا؛ وكان مفعولها مضمونا للجزاء؛ فلا يكاد يذكر؛ إلا أن يكون شيئا مستغربا؛ كما في قوله:
فلو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
أي: لو شاء أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لفعل؛ ولكن لم يشأ؛ لما يقتضيه من الحكم والمصالح؛ وقرئ: "لأذهب بأسماعهم" على زيادة الباء؛ كما في قوله (تعالى): ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ؛ والإفراد في المشهورة؛ لأن السمع مصدر في الأصل؛ والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها من الجمل الاستئنافية؛ وقيل: على "كلما أضاء"؛ إلخ.. وقوله [ ص: 57 ] - عز وجل -: إن الله على كل شيء قدير ؛ تعليل للشرطية؛ وتقرير لمضمونها الناطق بقدرته (تعالى) على إزالة مشاعرهم بالطريق البرهاني؛ و"الشيء" - بحسب مفهومه اللغوي - يقع على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه؛ كائنا ما كان؛ على أنه في الأصل مصدر "شاء"؛ أطلق على المفعول؛ واكتفي في ذلك باعتبار تعلق المشيئة به؛ من حيث العلم؛ والإخبار عنه فقط؛ وقد خص ههنا بالممكن؛ موجودا كان أو معدوما؛ بقضية اختصاص تعلق القدرة به؛ لما أنها عبارة عن التمكن من الإيجاد والإعدام ؛ الخاصين به؛ وقيل: هي صفة تقتضي ذلك التمكن؛ و"القادر" هو الذي إن شاء فعل؛ وإن لم يشأ لم يفعل؛ و"القدير" هو الفعال لكل ما يشاء؛ كما يشاء؛ ولذلك لم يوصف به غير الباري - جل جلاله -؛ ومعنى قدرته (تعالى)؛ على الممكن الموجود حال وجوده؛ أنه إن شاء إبقاءه على الوجود أبقاه عليه؛ فإن علة الوجود هي علة البقاء؛ وقد مر تحقيقه في تفسير قوله (تعالى): رب العالمين ؛ وإن شاء إعدامه أعدمه؛ ومعنى قدرته؛ على المعدوم حال عدمه؛ أنه إن شاء إيجاده أوجده؛ وإن لم يشأ لم يوجده؛ وقيل: قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل والترك؛ وقدرة الله (تعالى) عبارة عن نفي العجز ؛ واشتقاق "القدرة" من "القدر"؛ لأن القادر يوقع الفعل بقدر ما تقتضيه إرادته؛ أو بقدر قوته؛ وفيه دليل على أن مقدور العبد مقدور لله (تعالى) حقيقة؛ لأنه شيء؛ وكل شيء مقدور له (تعالى)؛ واعلم أن كل واحد من التمثيلين وإن احتمل أن يكون من قبيل التمثيل المفرق؛ كما في قوله:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
بأن يشبه المنافقون في التمثيل الأول بالمستوقدين؛ وهداهم الفطري بالنار؛ وتأييدهم إياه بما شاهدوه من الدلائل باستيقادها؛ وتمكنهم التام من الانتفاع به بإضاءتها ما حولهم؛ وإزالته بإذهاب النور الناري؛ وأخذ الضلالة بمقابلته بملابستهم الظلمات الكثيفة وبقائهم فيها؛ ويشبهوا في التمثيل الثاني بالسابلة؛ والقرآن؛ وما فيه من العلوم والمعارف التي هي مدار الحياة الأبدية؛ بالصيب الذي هو سبب الحياة الأرضية؛ وما عرض لهم بنزوله من الغموم؛ والأحزان؛ وانكساف البال بالظلمات؛ وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق؛ وتصامهم عما يقرع أسماعهم من الوعيد بحال من يهوله الرعد والبرق؛ فيخاف صواعقه؛ فيسد أذنه عنها؛ ولا خلاص له منها؛ واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه؛ أو رفد يحرزونه بمشيهم في مطرح ضوء البرق؛ كلما أضاء لهم؛ وتحيرهم في أمرهم؛ حين عن لهم مصيبة بوقوفهم إذا أظلم عليهم؛ لكن الحمل على التمثيل المركب الذي لا يعتبر فيه تشبيه كل واحد من المفردات؛ الواقعة في أحد الجانبين؛ بواحد من المفردات الواقعة في الجانب الآخر؛ على وجه التفصيل؛ بل ينتزع فيه من المفردات الواقعة في جانب المشبه هيئة؛ فتشبه بهيئة أخرى منتزعة من المفردات الواقعة في جانب المشبه به؛ بأن ينتزع من المنافقين؛ وأحوالهم المفصلة في كل واحد من التمثيلين؛ هيئة على حدة؛ وينتزع من كل واحد من المستوقدين؛ وأصحاب الصيب؛ وأحوالهم المحكية؛ هيئة بحيالها؛ فتشبيه كل واحدة من الأوليين بما يضاهيها من الأخريين هو الذي يقتضيه جزالة التنزيل؛ ويستدعيه فخامة شأنه الجليل؛ لاشتماله على التشبيه الأول إجمالا؛ مع أمر زائد؛ هو تشبيه الهيئة؛ وإيذانه بأن اجتماع تلك المفردات مستتبع لهيئة عجيبة حقيقة بأن تكون مثلا في الغرابة.