[ ص: 58 ] يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون .
يا أيها الناس اعبدوا ربكم : إثر ما ذكر الله (تعالى) علو طبقة كتابه الكريم؛ وتحزب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق؛ مؤمنة به؛ محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام؛ وكافرة قد نبذته وراء ظهرها؛ بالمجاهرة والشقاق؛ وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة؛ والنفاق؛ ونعت كل فرقة منها بما لها من النعوت والأحوال؛ وبين ما لهم من المصير والمآل؛ أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات؛ هزا لهم إلى الإصغاء؛ وتوجيها لقلوبهم نحو التلقي؛ وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذة الخطاب؛ فأمرهم كافة بعبادته؛ ونهاهم عن الإشراك به؛ و"يا" حرف وضع لنداء البعيد؛ وقد ينادى به القريب؛ تنزيلا له منزلة البعيد؛ إما إجلالا؛ كما في قول الداعي: "يا الله"؛ و"يا رب"؛ وهو أقرب إليه من حبل الوريد؛ استقصارا لنفسه؛ واستبعادا لها من محافل الزلفى؛ ومنازل المقربين؛ وإما تنبيها على غفلته؛ وسوء فهمه؛ وقد يقصد به التنبيه على أن ما يعقبه أمر خطير؛ يعتنى بشأنه؛ و"أي" اسم مبهم؛ جعل وصلة إلى نداء المعرف باللام؛ لا على أنه المنادى أصالة؛ بل على أنه صفة موضحة له؛ مزيلة لإبهامه؛ والتزم رفعه مع انتصاب موصوفه محلا؛ إشعارا بأنه المقصود بالنداء؛ وأقحمت بينهما كلمة التنبيه؛ تأكيدا لمعنى النداء؛ وتعويضا عما يستحقه "أي" من المضاف إليه؛ ولما ترى من استقلال هذه الطريقة بضروب من أسباب المبالغة والتأكيد كثر سلوكها في التنزيل المجيد؛ كيف لا.. وكل ما ورد في تضاعيفه على العباد من الأحكام؛ والشرائع؛ وغير ذلك؛ خطوب جليلة؛ حقيقة بأن تقشعر منها الجلود؛ وتطمئن بها القلوب الأبية؛ ويتلقوها بآذان واعية؛ وأكثرهم عنها غافلون؛ فاقتضى الحال المبالغة؛ والتأكيد في الإيقاظ والتنبيه؛ والمراد بالناس كافة المكلفين الموجودين في ذلك العصر؛ لما أن الجموع؛ وأسماءها المحلاة باللام للعموم؛ بدليل صحة الاستثناء منها؛ والتأكيد بما يفيد العموم؛ كما في قوله (تعالى): فسجد الملائكة كلهم أجمعون ؛ واستدلال الصحابة - رضوان الله (تعالى) عليهم أجمعين - بعمومها شائع ذائع؛ وأما من عداهم؛ ممن سيوجد منهم؛ فغير داخلين في خطاب المشافهة؛ وإنما دخولهم تحت حكمه؛ لما تواتر من دينه - صلى الله عليه وسلم - ضرورة؛ إن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للموجودين من المكلفين؛ ولمن سيوجد منهم إلى قيام الساعة؛ ولا يقدح في العموم ما روي عن علقمة؛ من أن كل ما نزل فيه "يا أيها الناس" فهو مكي؛ إذ ليس من ضرورة نزوله والحسن البصري؛ بمكة - شرفها الله (تعالى) - اختصاص حكمه بأهلها؛ ولا من قضية اختصاصه بهم اختصاصه بالكفار؛ إذ لم يكن كل أهلها حينئذ كفرة؛ ولا ضير في تحقق العبادة في بعض المكلفين قبل ورود هذا الأمر؛ لما أن المأمور به القدر المشترك الشامل لإنشاء العبادة؛ والثبات عليها؛ والزيادة فيها؛ مع أنها متكررة حسب تكرر أسبابها؛ ولا في انتفاء شرطها في الآخرين منهم؛ أعني الإيمان؛ لأن الأمر بها منتظم للأمر بما لا تتم إلا به؛ وقد علم من الدين ضرورة اشتراطها به؛ فإن أمر المحدث بالصلاة مستتبع للأمر بالتوضي؛ لا محالة؛ وقد قيل: ما يعم أفعال القلب أيضا؛ لما أنها عبارة عن غاية التذلل والخضوع؛ وروي عن المراد بالعبادة - رضي الله عنهما - أن كل ما ورد في القرآن من العبادات معناها التوحيد؛ وقيل: معنى "اعبدوا": وحدوا؛ وأطيعوا؛ ولا في كون بعض من الفرقتين الأخيرتين؛ ممن لا يجدي فيهم الإنذار؛ بموجب النص القاطع؛ لما أن الأمر لقطع الأعذار [ ص: 59 ] ليس فيه تكليفهم بما ليس في وسعهم من الإيمان بعدم إيمانهم أصلا؛ إذ لا قطع لأحد منهم بدخوله في حكم النص قطعا؛ وورود النص بذلك لكونهم في أنفسهم - بسوء اختيارهم - كذلك؛ لا أن كونهم كذلك لورود النص بذلك؛ فلا جبر أصلا؛ نعم.. لتخصيص الخطاب بالمشركين وجه لطيف؛ سنقف عليه عند قوله (تعالى): ابن عباس وأنتم تعلمون ؛ وإيراده (تعالى) بعنوان الربوبية؛ مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين؛ لتأكيد موجب الأمر بالإشعار بعليتها للعبادة. الذي خلقكم : صفة أجريت عليه - سبحانه - للتبجيل؛ والتعليل إثر التعليل؛ وقد جوز كونها للتقييد؛ والتوضيح؛ بناء على تخصيص الخطاب بالمشركين؛ وحمل "الرب" على ما هو أعم من الرب الحقيقي؛ والآلهة التي يسمونها أربابا. والخلق: إيجاد الشيء على تقدير واستواء؛ وأصله التقدير؛ يقال: "خلق النعل"؛ أي: قدرها وسواها بالمقياس؛ وقرئ: "خلقكم"؛ بإدغام القاف في الكاف. والذين من قبلكم : عطف على الضمير المنصوب؛ ومتمم لما قصد من التعظيم والتعليل؛ فإن خلق أصولهم من موجبات العبادة؛ كخلق أنفسهم؛ و"من" ابتدائية متعلقة بمحذوف؛ أي: كانوا من زمان قبل زمانكم؛ وقيل: خلقهم من قبل خلقكم؛ فحذف "الخلق"؛ وأقيم الضمير مكانه؛ والمراد بهم: من تقدمهم من الأمم السالفة كافة؛ ومن ضرورة عموم الخطاب بيان شمول خلقه (تعالى) للكل؛ وتخصيصه بالمشركين يؤدي إلى عدم التعرض لخلق من عداهم من معاصريهم؛ وإخراج الجملة مخرج الصلة التي حقها أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصول عندهم أيضا؛ مع أنهم غير معترفين بغاية الخلق؛ وإن اعترفوا بنفسه؛ كما ينطق به قوله (تعالى): ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ؛ للإيذان بأن خلقهم للتقوى من الظهور بحيث لا يتأتى لأحد إنكاره؛ وقرئ: "وخلق من قبلكم"؛ وقرئ: "والذين من قبلكم"؛ بإقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته؛ توكيدا؛ كإقحام اللام بين المضافين في "أبا لك"؛ أو بجعله موصوفا بالظرف؛ خبرا لمبتدإ محذوف؛ أي: الذين هم أناس كائنون من قبلكم. لعلكم تتقون : المعنى الوضعي لكلمة "لعل" هو إنشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه؛ مع رجحان الأول؛ إما محبوب؛ فيسمى ترجيا؛ أو مكروه؛ فيسمى إشفاقا؛ وذلك المعنى قد يعتبر تحققه بالفعل إما من جهة المتكلم؛ كما في قولك: لعل الله يرحمني؛ وهو الأصل الشائع في الاستعمال؛ لأن معاني الإنشاءات قائمة به؛ وإما من جهة المخاطب؛ تنزيلا له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما؛ كما في قوله - سبحانه -: فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ؛ وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع؛ متصف بحيثية مصححة له؛ من غير أن يعتبر هناك توقع بالفعل من متوقع أصلا؛ فإن روعيت في الآية الكريمة جهة المتكلم يستحيل إرادة ذلك المعنى؛ لامتناع التوقع من علام الغيوب - عز وجل -؛ فيصار إما إلى الاستعارة؛ بأن يشبه طلبه (تعالى) من عباده التقوى؛ مع كونهم مئنة لها؛ لتعاضد أسبابها؛ برجاء الراجي من المرجو منه أمرا هين الحصول؛ في كون متعلق كل منهما مترددا بين الوقوع وعدمه؛ مع رجحان الأول؛ فيستعار له كلمة "لعل" استعارة تبعية حرفية؛ للمبالغة في الدلالة على قوة الطلب؛ وقرب المطلوب من الوقوع؛ وإما إلى التمثيل؛ بأن يلاحظ خلقه (تعالى) إياهم مستعدين للتقوى؛ وطلبه إياها منهم؛ وهم متمكنون منها؛ جامعون لأسبابها؛ وينتزع من ذلك هيئة؛ فتشبه بهيئة منتزعة من الراجي؛ ورجائه من المرجو منه شيئا سهل المنال؛ فيستعمل في الهيئة الأولى ما حقه أن يستعمل في الثانية؛ فيكون هناك استعارة تمثيلية؛ قد صرح من ألفاظها بما هو العمدة في انتزاع الهيئة المشبه بها؛ أعني كلمة الترجي؛ والباقي منوي بألفاظ متخيلة؛ بها [ ص: 60 ]
يحصل التركيب المعتبر في التمثيل؛ كما مر مرارا؛ وأما جعل المشبه إرادته (تعالى) في الاستعارة والتمثيل فأمر مؤسس على قاعدة الاعتزال؛ القائلة بجواز تخلف المراد عن إرادته (تعالى)؛ فالجملة حال؛ إما من فاعل "خلقكم"؛ أي: طالبا منكم التقوى؛ أو من مفعوله؛ وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين؛ لأنهم المأمورون بالعبادة؛ أي: خلقكم وإياهم مطلوبا منكم التقوى؛ أو علة له؛ فإن خلقهم على تلك الحال في معنى خلقهم لأجل التقوى؛ كأنه قيل: خلقكم لتتقوا؛ أو: كي تتقوا؛ إما بناء على تجويز تعليل أفعاله (تعالى) بأغراض راجعة إلى العباد؛ كما ذهب إليه كثير من أهل السنة؛ وإما تنزيلا لترتب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له؛ فإن استتباع أفعاله (تعالى) لغايات ومصالح متقنة جليلة؛ من غير أن تكون هي علة غائية لها؛ بحيث لولاها لما أقدم عليها؛ مما لا نزاع فيه؛ وتقييد خلقهم بما ذكر من الحال؛ أو العلة لتكميل عليته للمأمور به؛ وتأكيدها؛ فإن إتيانهم بما خلقوا له أدخل في الوجوب؛ وإيثار "تتقون" على "تعبدون"؛ مع موافقته لقوله (تعالى): وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ؛ للمبالغة في إيجاب العبادة؛ والتشديد في إلزامها؛ لما أن التقوى قصارى أمر العابد؛ ومنتهى جهده؛ فإذا لزمتهم التقوى كان ما هو أدنى منها ألزم ؛ والإتيان به أهون؛ وإن روعيت جهة المخاطب فـ "لعل" في معناها الحقيقي؛ والجملة حال من ضمير "اعبدوا"؛ كأنه قيل: اعبدوا ربكم راجين للانتظام في زمرة المتقين الفائزين بالهدى والفلاح؛ على أن المراد بالتقوى مرتبتها الثالثة؛ التي هي التبتل إلى الله - عز وجل - بالكلية؛ والتنزه عن كل ما يشغل سره عن مراقبته؛ وهي أقصى غايات العبادة؛ التي يتنافس فيها المتنافسون؛ وبالانتظام القدر المشترك بين إنشائه والثبات عليه؛ ليرتجيه أرباب هذه المرتبة؛ وما دونها من مرتبتي التوقي عن العذاب المخلد؛ والتجنب عن كل ما يؤثم من فعل؛ أو ترك؛ كما مر في تفسير "المتقين"؛ ولعل توسيط الحال من الفاعل بين وصفي المفعول لما في التقديم من فوات الإشعار بكون الوصف الأول معظم أحكام الربوبية؛ وكونه عريقا في إيجاب العبادة؛ وفي التأخير من زيادة طول الكلام؛ هذا على تقدير اعتبار تحقق التوقع بالفعل؛ فأما إن اعتبر تحققه بالقوة فالجملة حال من مفعول "خلقكم"؛ وما عطف عليه على الطريقة المذكورة؛ أي: خلقكم وإياهم حال كونكم جميعا؛ بحيث يرجو منكم كل راج أن تتقوا؛ فإنه - سبحانه وتعالى - لما برأهم مستعدين للتقوى؛ جامعين لمباديها الآفاقية والأنفسية كان حالهم بحيث يرجو منهم كل راج أن يتقوا لا محالة؛ وهذه الحالة مقارنة لخلقهم؛ وإن لم يتحقق الرجاء قطعا؛ واعلم أن الآية الكريمة - مع كونها بعبارتها ناطقة بوجوب توحيده (تعالى)؛ وتحتم عبادته على كافة الناس - مرشدة لهم بإشارتها إلى أن مطالعة الآيات التكوينية المنصوبة في الأنفس؛ والآفاق؛ ومما يقضي بذلك قضاء متقنا؛ وقد بين فيها أولا من تلك الآيات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم وخلق أسلافهم؛ لما أنه أقوى شهادة؛ وأظهر دلالة؛ ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم؛ فقيل: