تفسير سورة الطور
هي مكية بإجماع من المفسرين والرواة.
قوله عز وجل:
والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون
هذه مخلوقات أقسم الله بها تنبيها منها وتشريفا، وليكون ذلك سبب النظر فيها والاعتبار بها، وذلك يؤول إلى التوحيد والمعرفة بحقوق الله تعالى.
و"الطور"، قال بعض أهل اللغة: كل جبل طور، فكأنه تبارك وتعالى أقسم بالجبال، إذ هو اسم جنس، وقال آخرون: الطور: كل جبل أجرد لا ينبت شجرا، وقال في كتاب مجاهد : الطور: الجبل بالسريانية، وهذا ضعيف، لأن ما حكاه في العربية يقضي على هذا، ولا خلاف أن في الطبري الشام جبلا يسمى بالطور ، وهو طور سيناء، فقال نوف البكالي: إنه الذي أقسم الله تعالى به لفضله على الجبال، إذ قد روي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أني مهبط على أحدكم أمري - يريد رسالة موسى عليه السلام ، فتطاولت كلها إلا الطور فإنه استكان لأمر الله تعالى وقال: حسبي الله، فأهبط الله تعالى الأمر عليه، ويقال: إنه بمدين، وقال : هما طوران. مقاتل بن حيان
و"الكتاب المسطور" معناه بإجماع: المكتوب أسطارا، واختلف الناس في هذا الكتاب المقسم به، فقال بعض المفسرين: هو الكتاب المنتسخ من اللوح المحفوظ للملائكة لتعرف منه جميع ما يفعله وتصرفه في العالم، وقال آخرون: بل أقسم الله تعالى بالقرآن، فإنه قد كان علم أنه يتخذ في رق منشور، وقال آخرون: أقسم الله تعالى [ ص: 86 ] بالكتب القديمة المنزلة، التوراة والإنجيل والزبور، وقال -فيما حكى الفراء -: أقسم بالصحف التي تعطى وتؤخذ يوم القيامة بالأيمان والشمائل، وقال قوم: أقسم بالكتاب الذي فيه أعمال الخلق، وهو الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وكتب بعض الناس "مصطور" بالصاد، والقصد بذلك تشابه النطق بالحروف، والجمهور على السين. و"الرق": الورق المعدة للكتب، وهي مرققة فلذلك سميت رقا، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان، و"المنشور" خلاف المطوي، وقد يحتمل أن يكون نشره بمعنى بشره وترقيقه وصنعته، وقرأ الرماني أبو السمال: "في رق" بكسر الراء.
واختلف الناس في "البيت المعمور"، فقال : هي الحسن بن أبي الحسن البصري الكعبة، وقال ، علي بن أبي طالب ، وابن عباس رضي الله عنهم: هو بيت في السماء يقال له الضراح، وهو بحيال وعكرمة الكعبة، ويقال: الضريح، ذكر ذلك ، وهو الذي ذكر في حديث الإسراء، الطبري جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم "هذا البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، آخر ما عليهم"، وبهذا عمارته، ويروى أنه في السماء السابعة، وقيل: السادسة، وقيل: إنه مقابل قال الكعبة، لو خر لسقط عليها، وقال ، مجاهد ، وقتادة : في كل سماء بيت معمور، وفي كل أرض كذلك، وهي كلها على خط مع الكعبة، وقال وابن زيد رضي الله عنه. علي بن أبي طالب
و"السقف المرفوع": السماء، و"السقف" طول في انحناء، ومنه أسقف النصارى، ومنه السقف، لأن الجدار وسقفه فيهما طول في انحناء.
واختلف الناس في "المسجور"، فقال مجاهد وشمر بن عطية معناه: الموقد [ ص: 87 ] نارا، وروي وقال "أن البحر هو جهنم" رضي الله عنه ليهودي: أين جهنم؟ فقال هي البحر، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما أظنه إلا صادقا، وقرأ: "والبحر المسجور"، [ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: علي قال "إن البحر هو جهنم"،] : وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الثعلبي وفي حديث آخر قال: "لا يركبن البحر إلا حاج أو معتمر أو مجاهد ، فإن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا "البحر نار في نار". وقال : المسجور: المملوء ماء، وهذا معروف من اللغة. ورجحه قتادة لوجود ماء البحر كذلك، ولهذا يعود القول الأول، لأن قولهم: "سجرت التنور" معناه: ملأتها بما يحترق ويتقد، و البحر المسجور: المملوء ماء، وهكذا هو معرض للعبرة، ومن قول الطبري النمر بن تولب:
إذا شاء طالع مسجورة ... ترى حولها النبع والسماسما
سقتها رواعد من صيف
... وإن من خريف فلن يعدما
يصف ثورا أو عينا مملوءة ماء. وقال رضي الله عنهما: المسجور هو الذي [ ص: 88 ] ذهب ماؤه، فالمسجور: الفارغ، ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة، وهذا معروف في اللغة، فهو من الأضداد، وقيل: يوقد البحر نارا يوم القيامة، فذلك السجر، وقال ابن عباس أيضا: المسجور: المحبوس، ومنه ساجور الكلب، وهى القلادة من عود أو حديد التي تمسكه، وكذلك لولا أن البحر يمسك لفاض على الأرض، وقال ابن عباس ، علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: البحر المقسم به هو في السماء تحت العرش، والجمهور على أنه بحر الدنيا، ويؤيد ذلك قوله تعالى: وعبد الله بن عمر وإذا البحار سجرت ، وقال : المعنى هو القسم بجهنم، وسماها بحرا لسعتها وتموجها، كما قال صلى الله عليه وسلم في الفرس: منذر بن سعيد "وإن وجدناه لبحرا".
والقسم واقع على قوله تعالى: إن عذاب ربك لواقع ويريد عذاب الآخرة للكفار، قال ، والعامل في "يوم" هو"واقع"، ويجوز أن يكون العامل فيه "دافع"، والأول أبين، قال قتادة : لا يعمل فيه "دافع"، قوله تعالى: "تمور" معناه: تذهب وتجيء بالرياح متقطعة متفتتة، والغبار الموار: الذي يجتمع ويذهب ويجيء بالريح، ثم هو كله إلى الذهاب، ومنه قول الأعرابي: مكي
"وغادرت التراب مورا" يصف سنة قحط، وأنشد معمر بن المثنى:
. . . . . . . . . . . . . . مور السحابة لا ريث ولا عجل
[ ص: 89 ] أراد مضيها. وقال : "تمور"; تموج، وقال الضحاك : تدور، وقال مجاهد رضي الله عنه تشقق، وهذه كلها تفاسير بالمعنى; لأن السماء العالية يعتريها هذا كله. ابن عباس
وسير الجبال هو في أول الأمر ثم تتفتت أثناء السير حتى تصير آخرا كالعهن المنفوش. والفاء في قوله تعالى: "فويل" عاطفة جملة على جملة، وهي تتضمن ربط المعنى وتأكيده وإثبات الويل للمكذبين، و"الويل": السوء والمشقة والهم الأطول، ويروى أن في جهنم واديا يسمى: ويلا و"الخوض": التخبط في الأباطيل، يشبه بخوض الماء، ومنه قوله تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ، و"يوم" الثاني بدل من "يومئذ"، و"يدعون" قال رضي الله عنهما وغيره: معناه: يدفعون في أعناقهم بشدة وإهانة وتعتعة، ومنه قوله تعالى: ابن عباس فذلك الذي يدع اليتيم ، وفي الكلام محذوف مختصر، تقديره: يقال لهم: "هذه النار"، وإخبارهم بهذا على جهة التوبيخ والتقريع. وقرأ ، : "يوم يدعون" من الدعاء، بسكون الدال وفتح العين. أبو رجاء العطاردي