وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون
المعنى: وتركنا في القرية المذكورة -وهي سدوم- أثرا من العذاب باقيا مؤرخا لا يفنى ذكره، فهو آية -أي: علامة- على قدرة الله تبارك وتعالى وانتقامه من الكفرة، ويحتمل أن يكون المعنى: وتركنا في أمرها، كما قال: لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين وقال : ترك فيها حجرا منضودا كثيرا جدا، و ( الذين [ ص: 77 ] يخافون العذاب ) هم العارفون بالله تعالى. ابن جريج
وقوله تعالى: "وفي موسى" يحتمل أن يكون عطفا على قوله تعالى: "فيها"، أي: وتركنا في موسى وقصته أثرا أيضا هو آية، ويحتمل أن يكون عطفا على قوله تعالى قبل: وفي الأرض آيات للموقنين ، وفرعون هو صاحب مصر، و"السلطان" في هذه الآية: الحجة، و"تولى" معناه أعرض وأدبر عن أمر الله تعالى، و"ركنه": سلطانه وجنده وشدة أمره، وهو الأمر الذي يركن فرعون إليه ويسند في شدائده، وقال : "بركنه": بجموعه، وقال ابن زيد : بقومه، وقول قتادة فرعون في موسى عليه السلام: "ساحر أو مجنون" هو تقسيم ظن أن موسى عليه السلام لا بد أن يكون أحد هذين، وقال : "أو" هنا بمعنى "الواو"، واستشهد ببيت أبو عبيدة جرير :
أثعلبة الفوارس أو رياحا عدلت بهم طهية والخشابا؟
والخشاب: بيوت في بني تميم، وقول ضعيف لا داعية إليه في هذا الموضع، "ونبذناهم" معناه: طرحناهم و "اليم": البحر، وفي مصحف أبي عبيدة : "فنبذناه" ، و "المليم": الذي أتى من المعاصي ونحوها ما يلام عليه، وقال ابن مسعود أمية بن أبي الصلت :
......................... ومن يخذل أخاه فقد ألاما
[ ص: 78 ] وقوله تعالى: "وفي عاد" عطف على قوله عز وجل: "وفي موسى". وعاد هي قبيلة هود النبي عليه الصلاة والسلام، و"العقيم" معناه: التي لا بركة فيها، لا تلقح شجرا ولا تسوق مطرا، وقال : كانت ريح الجنوب، وروي عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه : كانت نكباء، وهذا عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه لأنه يراد قول النبي صلى الله عليه وسلم: علي "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور"، و "تذر" معناه: تدع، وقوله تعالى: من شيء أتت عليه يعني مما أذن الله تعالى لها في إهلاكه، و"الرميم": الفاني المتقطع يبسا أو قدما من الأشجار والورق والحبال أو العظام، ومنه قوله تعالى: قال من يحيي العظام وهي رميم ، أي في قوام الرماد، وروي حديث: "إن تلك الريح كانت تهب على الناس فيهم العادي وغيره، فتنتزع العادي من بين الناس وتذهب به".
وقوله تعالى: وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين يحتمل أن يراد: قيل لهم في أول بعث صالح عليه السلام: آمنوا وأطيعوا فتمتعوا متاعا حسنا إلى آجالكم، وهو "الحين" على هذا، وهو قول حكاه عن الحسن ، ويجيء قوله تعالى: "فعتوا" مرتبا لفظا في الآية ومعنى في الوجود متأخرا عن القول لهم "تمتعوا"، ويحتمل أن يريد: إذ قيل لهم بعد عقر الناقة: الرماني تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ، وهي "الحين" على هذا التأويل، وهو قول ، ويجيء قوله تعالى: "فعتوا" غير مرتب المعنى في وجوده، لأن عتوهم كان قبل أن يقال لهم: "تمتعوا"، وكأن المعنى: فكان من أمرهم قبل هذه المقالة أن عتوا، وهو السبب في أن قيل لهم ذلك وعذبوا. وقرأ جمهور القراء: "الصاعقة"، وقرأ الفراء ، وهي قراءة الكسائي عمر رضي الله عنهما-: "الصعقة"، [ ص: 79 ] وهي -على القراءتين- الصيحة العظيمة، ومنه يقال للوقعة الشديدة من الرعد: صاعقة، وهي التي تكون معها النار التي يروى في الحديث أنها من المخراق الذي بيد ملك يسوق السحاب. وقوله تعالى: "وهم ينظرون" يحتمل أن يريد: فجأة وهم يبصرون بعيونهم حالهم، وهذا قول وعثمان ، ويحتمل أن يريد: وهم ينظرون ذلك في تلك الأيام الثلاثة التي أعلموا به فيها ورأوا علاماته في تلونهم، وهذا قول الطبري حسب تقدم تفسيره، وانتظارهم العذاب هو أشد من العذاب. مجاهد