قوله عز وجل:
فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين
المعنى: فقربه إليهم فأمسكوا عنه فقال: ألا تأكلون؟ فيروى في الحديث أنهم قالوا له: إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه، فقال لهم إبراهيم عليه السلام: وأنا لا أبيحه لكم إلا بثمن، قالوا: وما هو؟ قال: أن تسموا الله تعالى عند الابتداء، وتحمدوه عند الفراغ من الأكل، فقال بعضهم لبعض: بحق اتخذه الله خليلا، فلما استمروا على ترك الأكل أوجس منهم خيفة، و"الوجس": تحسس النفس وخواطرها في الحذر، وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه، والطعام حرمة وذمام، والامتناع عن ذلك وحشة، فخشي إبراهيم عليه السلام أن امتناعهم من أكل طعامه إنما هو لشر يريدونه، فقالوا له: لا تخف، وعرفوه أنهم ملائكة، وبشروه وبشروا سارة معه بغلام عليم، أي: عالم في حال تكليفه وتحصيله، أي سيكون عليما، و"عليم" بناء مبالغة. وجمهور الناس على أن الغلام هنا إسحاق ابن سارة عليه السلام الذي ذكرت البشارة به في غير موضع، وقال : هذا الغلام هو مجاهد إسماعيل عليه السلام، والأول أرجح، وهذا وهم، ويروى أنه عرف كونهم ملائكة استدلالا من بشارتهم إياه بالغيب.
وقوله تعالى: "فأقبلت امرأته" يحتمل أن يكون: قربت إليهم من ناحية من نواحي المنزل، ويحتمل أن يكون هذا الإقبال كما تقول: أقبل فلان يشتمني أو يفعل كذا إذا جد في ذلك وتلبس به. و"الصرة": الصيحة، كذا فسره ، ابن عباس ، ومجاهد ، وسفيان ، والمضطر الذي يصيح، وقال والضحاك : معناه: في رنة، وقال قتادة : قال بعضهم: قالت: أوه، بصياح وتعجب، وقال الطبري النحاس : وقيل: "في [ ص: 75 ] صرة": في جماعة نسوة يتبادرن نظرا إلى الملائكة. وقوله تعالى: "فصكت وجهها" معناه: ضربت وجهها، قال رضي الله عنهما: لطمت، وهذا مما يفعله الذي يرد عليه أمر يستهوله، وقال ابن عباس ، سفيان ، والسدي : ضربت بكفيها وجهها، وهذا مستعمل في الناس حتى الآن، وقولها: "عجوز عقيم" إما أن يكون تقديره: إنى عجوز عقيم فكيف ألد؟ وإما أن يكون التقدير: عجوز عقيم تكون منها ولادة؟ وقدره ومجاهد : أتلد عجوز عقيم، ويروى أنها كانت لم تلد قط، و"العقيم" من النساء التي لا تلد، ومن الرياح التي لا تلقح شجرا فهي لا بركة فيها. وقولهم: الطبري كذلك قال ربك أي كقولنا الذي أخبرناك به قال ربك أن يكون، و"الحكيم" ذو الحكمة، و "العليم" معناه: بالمصالح وغير ذلك من المعلومات.
ثم قال إبراهيم عليه السلام للملائكة: "فما خطبكم" والخطب: الأمر المبهم، وقيل إنما يعبر به عن الشدائد والمكاره غالبا حتى قالوا: "خطوب الزمان" وغير ذلك وكأنه يقول: ما هذه الطامة التي جئتم لها؟ فأخبروه حينئذ أنهم أرسلوا إلى سدوم قرية لوط عليه السلام بإهلاك أهلها الكفرة العاصين المجرمين، و"المجرم": فاعل الجرائم وهي صفات المعاصي من كفر ونحوه، واحدتها جريمة. وقولهم "لنرسل عليهم" أي: لنهلكهم بهذه الحجارة، ومتى اتصلت "أرسل" بـ "على" : فهي في معنى المبالغة في المباشرة والعذاب. ومتى اتصلت بـ "إلى" فهي أخف، وانظر ذلك تجده مطردا، وقوله تعالى: حجارة من طين بيان تخرج عن معتاد حجارة البرد التي هي من ماء، ويروى أنه طين طبخ في نار جهنم حتى صار حجارة كالآجر، و"مسومة" نعت لـ "حجارة"،وقيل: معناه: متروكة. وسومها من الإهلاك والإصابة، وقيل: معناه; معلمة بعلامتها من السماء، والسومى: العلامة، أي: إنها ليست من حجارة الدنيا، وقال الزهراوي قيل: معناه على كل حجر اسم المضروب به، قال والرماني: : وقيل: كان عليها أمثال الخواتيم، وقال الرماني رضي الله عنهما: تسويمها إن كان في الحجارة السود نقط بيض، وفي البيض سود، ويحتمل أن يكون المعنى أنها بجملتها معلومة عند ربك لهذا المعنى معلمة له، علامة خاصة به و"المسرف": [ ص: 76 ] الذي يتعدى الطور، فإذا جاء مطابقا فهو لأبعد غايات الكفر فما دونه. ابن عباس
ثم أخبر الله تعالى أنه أخرج بأمره من كان في قرية لوط من المؤمنين منجيا لهم، وأعاد الضمير على القرية ولم يصرح لها قبل ذلك بذكر لشهرة أمرها، ولأن القوم المجرمين معلوم أنهم في قرية ولا بد، قال المفسرون: ولا فرق بين تقدم ذكر المؤمنين وتأخره، وإنما هما وصفان، ذكرهم أولا بأحدهما ثم آخرا بالثاني، قال : الآية دالة على أن الرماني الإيمان هو الإسلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ويظهر إلي أن في المعنى زيادة تحسن التقديم للإيمان، وذلك أنه ذكره مع الإخراج من القرية كأنه تعالى يقول: لقد أمرنا بإخراج كل مؤمن، ولا يشترط فيه أن يكون عاملا بالطاعات بل التصديق بالله تعالى فقط، ثم لما ذكر حال الموحدين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها وهي الكاملة التصديق والأعمال. والبيت من المسلمين هو بيت لوط عليه السلام وكان هو وابنتاه، وقيل: وبنته، وفي كتاب : وقيل الثعلبي لوط وأهل بيته ثلاثة عشر، وهلكت امرأته فيمن هلك. وهذه القصة بجملتها ذكرت على جهة المثال لقريش، أي أنهم إذا كفروا أصابهم مثل ما أصاب هؤلاء المذكورين.