أجئتنا لنعبد الله وحده : أنكروا ، واستبعدوا ، وترك دين الآباء ، في اتخاذ الأصنام شركاء معه ، حبا لما نشأوا عليه ، وألفا لما صادفوا آباءهم يتدينون به . اختصاص الله وحده بالعبادة
فإن قلت : ما معنى المجيء في قوله : "أجئتنا"؟
قلت : فيه أوجه ; أن يكون لهود - عليه السلام - مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه ، كما كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحراء قبل المبعث فلما أوحى إليه ، جاء قومه يدعوهم ، وأن يريدوا به الاستهزاء ; لأنهم كانوا يعتقدون أن الله - تعالى - لا يرسل إلا الملائكة ، فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك ، وألا يريدوا حقيقة المجيء ، ولكن التعرض بذلك والقصد كما يقال : ذهب يشمتني ، ولا يراد حقيقة الذهاب ، كأنهم قالوا : أقصدتنا لنعبد الله وحده ، وتعرضت لنا بتكليف ذلك؟ فأتنا بما تعدنا : استعجال منهم للعذاب قد وقع عليكم : أي : حق عليكم ووجب ، أو قد نزل عليكم ، جعل المتوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع ; ونحوه قولك لمن طلب إليك بعض المطالب : قد كان ذلك ، وعن حسان ; أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور ، وهو طفل ، فجاء يبكي ، فقال له : يا بني ما لك ، قال : لسعني طوير كأنه ملتف في بردي حبرة ، فضمه إلى صدره ، وقال له : يا بني ، قد قلت الشعر ، والرجس : العذاب من الارتجاس ، وهو الاضطراب في أسماء سميتموها : في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات ; لأنكم تسمونها آلهة ، ومعنى الإلهية فيها معدوم محال وجوده ; وهذا كقوله تعالى : ما يدعون من دونه من شيء ، ومعنى : سميتموها : سميتم بها من : سميته زيدا ، "وقطع دابرهم" : استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم ، وقصتهم أن "عادا " قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت ، وكانت لهم أصنام يعبدونها : صداء ، وصمود ، والهباء ، فبعث الله إليهم هودا نبيا ، وكان من أوسطهم وأفضلهم حسبا ، فكذبوه ، وازدادوا عتوا وتجبرا ، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث [ ص: 460 ] سنين حتى جهدوا ، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله - تعالى- الفرج منه عند بيته المحرم مسلمهم ومشركهم ، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وسيدهم معاوية بن بكر ، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا ، منهم قيل بن عنز ، ومرثد بن سعد ، الذي كان يكتم إسلامه ، فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر ، وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم ، فأنزلهم ، وأكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر ، وتغنيهم الجرادتان ، - قينتان كانتا - فلما رأى طول مقامهم ، وذهولهم باللهو عما قدموا له ، أهمه ذلك ، وقال : قد هلك أخوالي ، وأصهاري ، وهؤلاء على ما هم عليه ، وكان يستحيي أن يكلمهم ; خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه ، فذكر ذلك للقينتين ، فقالتا : قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله ; فقال لمعاوية [من الوافر] معاوية :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يسقينا غماما فيسقي أرض عاد إن عادا
قد امسوا ما يبينون الكلاما
[ ص: 461 ] فلما غنتا به ، قالوا : إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم ، وقد أبطأتم عليهم ، فادخلوا الحرم ، واستسقوا لقومكم ، فقال لهم مرثد بن سعد : والله ، لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم ، وتبتم إلى الله ، سقيتم ، وأظهر إسلامه ، فقالوا لمعاوية : احبس عنا مرثدا ، لا يقدمن معنا مكة ; فإنه قد اتبع دين هود ، وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة ، فقال قيل اللهم ، اسق عادا ما كنت تسقيهم ، فأنشأ الله - تعالى- سحابات ثلاثا بيضاء ، وحمراء ، وسوداء ، ثم ناداه مناد من السماء : يا قيل ، اختر لنفسك ولقومك ، فقال : اخترت السوداء ; فإنها أكثرهن ماء ، فخرجت على عاد من واد لهم يقال له : المغيث ، فاستبشروا بها ، وقالوا هذا عارض ممطرنا ، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ، ونجا هود والمؤمنون معه ، فأتوا مكة ، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا .
فإن قلت : ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله : وما كانوا مؤمنين مع إثبات التكذيب بآيات الله؟
قلت : هو تعريض بمن آمن منهم كـمرثد بن سعد " ، ومن نجا مع هود - عليه السلام - كأنه قال : وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم ، ليؤذن أن الهلاك خص المكذبين ، ونجى الله المؤمنين .