ثم لم تكن فتنتهم الآية. في الفتنة هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني معذرتهم ، فسماها فتنة لحدوثها عن الفتنة ، قاله . والثاني: عاقبة فتنتهم وهو شركهم. والثالث: يعني بليتهم التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة ، قاله قتادة أبو عبيد القاسم بن سلام. إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين تبدأوا بذلك من شركهم ، فإن قيل: كيف كذبوا في الآخرة بجحود الشرك ولا يصح منهم الكذب في الآخرة لأمرين: أحدهما: أنه لا ينفعهم. والثاني: أنهم مصروفون عن القبائح ملجؤون إلى تركها لإزالة التكليف عنهم ، ولو لم يلجؤوا إلى ترك القبيح ويصرفوا عنه مع كمال عقولهم وجب تكليفهم ليقلعوا به عن القبيح ، وفي عدم تكليفهم دليل على إلجائهم إلى تركه. قيل: عن ذلك جوابان. أحدهما: أن قولهم والله ربنا ما كنا مشركين أي في الدنيا عند أنفسنا لاعتقادنا فيها أننا على صواب ، وإن ظهر لنا خطؤه الآن ، فلم يكن ذلك منهم كذبا ، قاله قطرب . والثاني: أن الآخرة مواطن ، فموطن لا يعلمون ذلك فيه ولا يضطرون إليه ، وموطن يعلمون ذلك فيه ويضطرون إليه ، فقالوا ذلك في الموطن الأول ، قاله بعض متأخري المتكلمين. [ ص: 103 ] وهذا ليس بصحيح لأنه يقتضي أن يكونوا في الموطن الأول مكلفين لعدم الإلجاء والاضطرار ، وفي الموطن الثاني غير مكلفين. وقد يعتل الجواب الأول بقوله تعالى بعد هذه الآية: انظر كيف كذبوا على أنفسهم فأخبر عنهم بالكذب ، وهم على الجواب الأول غير كاذبين. وقد أجيب عن هذا الاعتراض بجواب ثالث ، وهو أنهم أنكروا بألسنتهم ، فلما نطقت جوارحهم أقروا ، وفي هذا الجواب دخل لأنهم قد كذبوا نطق الجوارح. وضل عنهم ما كانوا يفترون فيه وجهان: أحدهما: بسوء كذبهم وجحودهم. والثاني: فضلت عنهم أوثانهم التي افتروا على الله بعبادتها ، والافتراء: تحسين الكذب. قوله عز وجل: ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه قيل: إنهم كانوا يستمعون في الليل قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته. وفيه وجهان: أحدهما: يستمعون قراءته ليردوا عليه. والثاني: ليعلموا مكانه فيؤذوه ، فصرفهم الله عن سماعه ، بإلقاء النوم عليهم ، بأن جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه. والأكنة الأغطية واحدها كنان ، يقال: كننت الشيء إذا غطيته ، وأكننته في نفسي إذا أخفيته ، وفي قراءة ، علي على أعينهم غطاء. وابن مسعود: وفي آذانهم وقرا والوقر: الثقل ، ومنه الوقار إذا ثقل في المجلس. وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها يعني بالآية علامة الإعجاز لما قد استحكم في أنفسهم من حسده وبغضه ، وذلك صرفهم عن سماع القرآن ، لأنهم قصدوا بسماعه الأذى والافتراء. حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين [ ص: 104 ] فيما كانوا يجادلون به النبي صلى الله عليه وسلم قولان: أحدهما: أنهم كانوا يجادلونه بما ذكره الله تعالى من قوله عنهم: إن هذا إلا أساطير الأولين ، قال . والثاني: هو قولهم: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم ، قاله الحسن . ومعنى ابن عباس أساطير الأولين أي أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها في كتبهم ، وقيل: إن الذي جادلهم بهذا النضر بن الحارث. قوله عز وجل: وهم ينهون عنه وينأون عنه فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ينهون عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتباعدون عنه فرارا منه ، قاله ، محمد ابن الحنفية ، والحسن . والثاني: ينهون عن القرآن أن يعمل بما فيه ، ويتباعدون من سماعه كيلا يسبق إلى قلوبهم العلم بصحته ، قاله والسدي ، مجاهد . والثالث: ينهون عن أذى وقتادة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتباعدون عن اتباعه ، قال : ابن عباس نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتباعد عما جاء به ، فلا يؤمن به مع وضوح صدقه في نفسه. واستشهد بما دل على ذلك عن شعر مقاتل أبي طالب بقوله:
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت دينا قد علمت بأنه
من خير أديان البرية دينا
لولا الذمامة أو أحاذر سبة لوجدتني سمحا بذلك مبينا
فاذهب لأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منك عيونا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فنزلت هذه الآية ، فقرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو طالب: أما أن أدخل في دينك فلا ، قال : لسابق القضاء في اللوح المحفوظ ، وبه قال ابن عباس ، عطاء والقاسم.