ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل أي وفوا حقهما بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوته - صلى الله تعالى عليه وسلم - ومبشرات بعثته، وليس المراد مراعاة جميع ما فيهما من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها؛ فإن ذلك ليس من الإقامة في شيء وما أنزل إليهم من ربهم من القرآن المجيد، المصدق لما بين يديه ، كما روي عن - رضي الله تعالى عنهما - واختاره ابن عباس وغيره، وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل، ككتاب شعيا، وكتاب حزقيل، وكتاب حبقوق، وكتاب دانيال، فإنها مملوءة بالبشائر بمبعثه - صلى الله تعالى عليه وسلم - واختاره الجبائي ، ويجوز أن يراد به ما يعم ذلك، والقرآن العظيم. أبو حيان
وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله إليه، وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحي نازلا عليه، والتعبير عن القرآن بذلك العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم، وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل، وتقديم ( إليهم ) لما مر آنفا، وفي إضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة.
[ ص: 185 ] لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم أي: لأعطتهم السماء مطرها وبركتها، والأرض نباتها وخيرها، كما قال سبحانه: لفتحنا عليهم بركات من السماء قاله ، ابن عباس وقتادة ، وقيل: المراد: لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار، وغلال الزروع، وقيل: بما يهدل من الثمار من رءوس الأشجار، وما يتساقط منها على الأرض، وقيل: بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم، وما يعطيه لهم سفلتهم وعوامهم، وقيل: المراد المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين، كأنه قيل: لأكلوا من كل جهة، وجعله ومجاهد الطبرسي نظير قولك: فلان في الخير من قرنه إلى قدمه، أي يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها، والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات، ويستتبع سائرها، ومفعول ( أكلوا ) محذوف لقصد التعميم، أو للقصد إلى نفس الفعل، كما في قولك: فلان يعطي ويمنع، و( من ) في الموضعين لابتداء الغاية.
وسنشير - إن شاء الله تعالى - في باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل، وفي الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروي، وفي الثانية ترغيب بأمر دنيوي، وتنبيه على أن ما أصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض، وتقديم الترغيب بالأمر الأخروي لأنه أهم؛ إذ به النجاة السرمدية، والنعيم المقيم، وخولف بين العبارتين فقيل أولا: ( آمنوا واتقوا ) وثانيا: ( أقاموا ) ذا وذا سلوكا لطريق البلاغة، قيل: ويشبه أن يكون ( ما ) في الشرطية الثانية إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم، وإفساد زروعهم، وإجلائهم عن أوطانهم، فكأنه قيل في حقهم: لو أنهم أقاموا في ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم! لكنهم تعدوا عن الإقامة فحرموا وتاهوا في مهامه الضنك إذ ظلموا.
وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم في أهل الكتاب إلى يوم القيامة، إذ لا شبهة في أنه إذا آمن كتابي واتقى كفر الله تعالى عنه سيئاته، وأدخله - جل شأنه - في رحمته، سواء في ذلك معاصر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم – وغيره، ولا كذلك الشرطية الثانية؛ فإن الظاهر اختصاص تحقق اللزوم في المعاصر، إذ نرى كثيرا من أهل الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام، ونرى الكثير أيضا منهم يقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، ويؤمن بالله تعالى ورسوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - على الوجه اللائق وهو في ضنك من العيش قبل، ولا يتغير حاله، وربما كان في رفاهية حتى إذا أقام وقفت به سفينة العيش، فوقع في حيص بيص.
وجعلها كالشرطية الأولى، وحمل التوسعة على ما هو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية - كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما في أيديهم، فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلا – لا أظنه يأخذ محلا من فؤادك، ولا أحسبه حاسما لما يقال، والقول بأنها كالأولى - إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ما تقدم، وانتفاعهم كذلك، أي لو أنهم كلهم أقاموا التوراة إلخ، لأكلوا كلهم من فوقهم إلخ، لا لو أقام بعضهم - لا أراه إلا منكرا من القول وزورا.
وذكر بعض المحققين أن بعضا فسر قوله سبحانه: ( لأكلوا ) إلخ، بقوله: لوسع عليهم الرزق، وفسر التوسعة بأوجه ذكرها، ولم يجعله شاملا لرزق الدارين، ولو حمل على الترقي وتفصيل ما أجمل في الأول شرطا وجزاء لكان وجها، انتهى.
وبهذا الوجه أقول، وإليه أتوجه، وإنى أراه كالمتعين، إلا أن الشرطيتين عليه ليستا سواء، والإشكال فيه باق من وجه، ولا مخلص عنه على ما أرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين، ولعل النوبة تفضي - إن شاء الله تعالى - إلى تحقيق ما يتعلق بهذا المقام، فتدبر.
منهم أمة مقتصدة أي: طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة، [ ص: 186 ] كما روي عن الربيع، وهم الذين أسلموا منهم، وتابعوا النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - كما قال مجاهد والسدي ، واختاره وابن زيد ، وأولئك الجبائي وأضرابه من اليهود ، وثمانية وأربعون من النصارى وقيل: المراد بهم كعبد الله بن سلام وأصحابه - رضي الله تعالى عنهم - والجملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الشرطيتين المصدرتين بحرف الامتناع، الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاء والإقامة المذكورات، كأنه قيل: هل كلهم مصروف على عدم الإيمان وأخويه؟ فقيل: ( منهم ) إلخ، وتفسير الاقتصاد بالتوسط في العداوة بعيد، النجاشي وكثير منهم وهم الأجلاف المتعصبون؛ ككعب بن الأشرف وأشباهه والروم.
ساء ما يعملون من العناد، والمكابرة، وتحريف الحق، والإعراض عنه.
وقيل: من الإفراط في العداوة، و( كثير ) مبتدأ و( منهم ) صفته، و( ساء ) كبئس للذم.
وعن بعض النحاة أن فيها معنى التعجب، كقضو زيد، أي: ما أقضاه، فالمعنى هنا: ما أسوأ عملهم، وبعضهم يقول: هي لمجرد الذم، والتعجب مأخوذ من المقام، وتمييزها محذوف، و( ما ) موصولة فاعل لها، أي: ساء عملا الذي يعملونه، ويجوز أن تكون ( ما ) نكرة في موضع التمييز، والجملة الإنشائية خبر للمبتدأ، والكلام في ذلك شهير.