وكون القرآن في حكم كلام واحد ، وأيدوا ذلك بقوله تعالى : وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون فإنه عطف على ألا تقنطوا والتعليل معترض ، وبعد تسليم حديث حمل الإطلاق على التقييد يكون عطفا لتتميم الإيضاح كأنه قيل : لا تقنطوا من رحمة الله تعالى فتظنوا أنه لا يقبل توبتكم وأنيبوا إليه تعالى وأخلصوا له عز وجل .
وأجاب بعض الجماعة بمنع وجوب حمل الإطلاق على التقييد في كلام واحد نحو أكرم الفضلاء أكرم الكاملين فضلا عن كلام لا يسلم كونه في حكم كلام واحد وحينئذ لا يكون المعطوف شرطا للمعطوف عليه إذ ليس من تتمته ، وقيل : إن الأمر بالتوبة والإخلاص لا يحل بالإطلاق إذ ليس المدعي أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن الأمر بهما وتنافي الوعيد بالعذاب .
وقال بعض أجلة المدققين : إن قوله تعالى : يا عبادي الذين أسرفوا خطاب للكافرين والعاصين وإن كان المقصود الأولى الكفار لمكان القرب وسبب النزول ، فقد أخرج ابن جرير عن وابن مردويه أنه قال : إن أهل ابن عباس مكة قالوا : يزعم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنه من عبد الأوثان ودعا مع الله تعالى إلها آخر وقتل [ ص: 15 ] النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم .. إلخ . .
وأخرج عن ابن جرير رضي الله تعالى عنهما قال : نزلت هذه الآيات في ابن عمر عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله تعالى من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا أقوام أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه فنزلت هؤلاء الآيات وكان رضي الله تعالى عنه كاتبا فكتبها بيده ثم كتب بها إلى عمر عياش وإلى الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا .
وأخرج عن ابن جرير عطاء بن يسار قال : نزلت هذه الآيات الثلاث قل يا عبادي - إلى - وأنتم لا تشعرون بالمدينة في وحشي وأصحابه وتخلل قوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا بين المعطوفين تعليلا للجزء الأول قبل الوصول إلى الثاني للدلالة على سعة رحمته تعالى وأن مثله حقيق بأن يرجى وإن عظم الذنب لا سيما وقد عقب بقوله تعالى : إنه هو الآية الدال على انحصار الغفران والرحمة على الوجه الأبلغ فالوجه أن يجري على عمومه ليناسب عموم الصدر ولا يقيد بالتوبة لئلا ينافي غرض التخلل مع أنه جمع محلى باللام ، وقد أكد بما صار نصا في الاستغراق ، ولا يغني المعتزلي أن القرآن العظيم كالكلام الواحد وأنه سليم من التناقض بل يضره ، وكذلك ما ذكر من أسباب النزول . انتهى . وقد تضمن الإشارة إلى بعض مؤكدات الإطلاق التي حكيناها آنفا والذي يترجح في نظري ما اختاره من عموم الخطاب في ( يا عبادي ) للعاصين والكافرين ، وأمر الإضافة سهل ، وإن قوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا مقيد بلمن يشاء بقرينة التصريح به في قراءة عبد الله هنا ، وكون الأمور كلها معلقة بالمشيئة ولا نسلم أن متعلق المشيئة التائب وحده ، وكونها تابعة للحكمة على تقدير صحته لا ينفع إذ دون إثبات كون المغفرة لغير التائب منافية للحكمة خرط القتاد . نعم لا تتعلق بالمشرك ما لم يؤمن لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به [النساء : 48] فمغفرة الشرك مشروطة بالإيمان داخل فيمن يشاء لكن بالشرط المعروف ، واعتبار الشرط فيه لا يضر في عدم اعتبار شرط التوبة في العاصي بما دونه . ويشهد لذلك ما أخرجه في مسنده . الإمام أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم . . وابن مردويه في شعب الإيمان عن والبيهقي ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : لا يقال المغفرة لمن أشرك بشرط الإسلام أمر واضح فلا يجوز أن تخفى على السائل وعليه عليه الصلاة والسلام حتى يسكت لانتظار الوحي أو الاجتهاد لأنا نقول : السؤال للاستبعاد من حيث العادة والسكوت لتعليم سلوك طريق التأني والتدبر وإن كان الأمر واضحا . «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى آخر الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال : إلا ومن أشرك ثلاث مرات »
وقيل : الظاهر أنه لانتظار الإذن أو الاجتهاد في التصريح بعموم المغفرة فإنهم ربما اتكلوا على ذلك فيخشى التفريط في العمل وهو لا ينافي التعليم فإنه عليه الصلاة والسلام إنما يعلمهم التدبر بعد أن يتدبر هو في نفسه صلى الله عليه وسلم .
وزعم أن الحديث دال على اشتراط التوبة ليس بشيء ، ويؤيد إطلاق المغفرة عن قيد التوبة ما أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وأبو داود وحسنه والترمذي وابن المنذر في المصاحف وابن الأنباري والحاكم عن وابن مردويه قالت : أسماء بنت يزيد فإنه ليس للا يبالي كثير حسن إن [ ص: 16 ] كانت المغفرة مشروطة بالتوبة كما لا يخفى ، وكذا ما أخرجه «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم » عن ابن جرير قال : قال ابن سيرين كرم الله تعالى وجهه أي آية أوسع ؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن علي ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه [النساء : 110] الآية ونحوها فقال كرم الله تعالى وجهه : ما في القرآن أوسع آية من علي يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية .
والمؤكدات السابقة أعني السبعة عشر لا يخلو بعضها عن بحث ، والظاهر أن مغفرة ذنب لا تجامع العذاب عليه أصلا ، وذهب بعضهم إلى أنها تجامعه إذا كان أنقص من الذنب لا إذا كان بمقداره فمن عذب بمقدار ذنبه في النار ، وأخرج منها لا يقال إنه غفر له إذ السيئات إنما تجزى بأمثالها ، وقيل : تجامعه مطلقا وكون السيئات لا تجزى إلا بأمثالها بلطفه تعالى أيضا فهو نوع من عفوه عز وجل وفيه ما فيه فتأمل ، وأصل الإنابة الرجوع .
ومعنى وأنيبوا إلى ربكم .. إلخ . أي ارجعوا إليه سبحانه بالإعراض عن معاصيه والندم عليها ، وقيل : بالانقطاع إليه تعالى بالعبادة وذكر الرب كالتنبيه على العلة ، وقال : الإنابة الرجوع بالكلية ، والفرق بين الإنابة والتوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة والمنيب يرجع استحياء لكرمه تعالى ، والإسلام له سبحانه الإخلاص في طاعاته عز وجل ، وذكر أن الإخلاص بعد الإنابة أن يعلم العبد أن نجاته بفضل الله تعالى لا بإنابته فبفضله سبحانه وصل إلى إنابته لا بإنابته وصل إلى فضله جل فضله . وعن القشيري من حديث أخرجه ابن عباس ابن جرير عنه «من آيس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله تعالى ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله تعالى عليه » وابن المنذر