وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الجملتين اسميتين مع مشاركتهما لما قبلهما من الجملة الفعلية في الاستشهاد بمضمونها على تباين الناس في الأحوال الباطنة لما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر فعبر عنه بما يدل على الاستمرار، وأما إخراج الثمرات المختلفة فحيث كان أمرا حادثا عبر عنه بما يدل على الحدوث، ثم لما كان فيه نوع خفاء علق به الرؤية بطريق الاستفهام التقريري المنبئ عن الحمل عليها والترغيب فيها بخلاف أحوال الجبال والناس وغيرهما فإنها مشاهدة غنية عن التأمل، فلذلك جردت عن التعليق بالرؤية، فتدبر اه.
وما ذكره من أمر تعليق الرؤية مخالف لما في البحر حيث قال: وهذا استفهام تقرير ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جدا فتأمل.
وقرأ « والدواب» بتخفيف الباء مبالغة في الهرب من التقاء الساكنين كما همز بعضهم الزهري ولا الضالين لذلك. [ ص: 191 ]
وقرأ ابن السميقع «ألوانها»، وقوله تعالى كذلك في محل نصب صفة لمصدر مختلف المؤكد والتقدير مختلف اختلافا كائنا كذلك، أي كاختلاف الثمرات والجبال فهو من تمام الكلام قبله والوقف عليه حسن بإجماع أهل الأداء.
وقوله سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماء تكملة لقوله تعالى: إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب [فاطر: 18] بتعيين من يخشاه عز وجل من الناس بعد الإيماء إلى بيان شرف الخشية ورداءة ضدها وتوعد المتصفين به وتقرير قدرته عز وجل المستدعي للخشية على ما نقول أو بعد بيان اختلاف طبقات الناس وتباين مراتبهم، إما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل وإما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان، وقيل كذلك في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك، أي كما بين ولخص، ثم قيل: إنما يخشى الله إلخ وسلك به مسلك الكناية من باب العرب لا تخفر الذمم دلالة على أن العلم يقتضي الخشية ويناسبها، وهو تخلص إلى ذكر أوليائه تعالى مع إفادة أنهم الذين نفع فيهم الإنذار وأن لك بهم غنية عن هؤلاء المصرين، قال صاحب الكشف: والرفع أظهر ليكون من فصل الخطاب.
وقال يحتمل أن يكون ابن عطية كذلك متعلقا بما بعده خارجا مخرج السبب، أي كذلك الاعتبار والنظر في مخلوقات الله تعالى واختلاف ألوانها يخشى الله العلماء، ورده بأن إنما لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وبأن الوقف على كذلك عند أهل الأداء جميعا، وارتضاه السمين الخفاجي وقال: وبه ظهر ضعف ما قيل: إن المعنى الأمر كذلك أي كما بين ولخص على أنه تخلص لذكر أولياء الله تعالى، وفيه أنه ليس في هذا المعنى عمل ما بعد إنما فيما قبلها وإجماع أهل الأداء على الوقف على كذلك إن سلم لا يظهر به ضعف ذلك، وفي بعض التفاسير المأثورة عن السلف ما يشعر بتعلق كذلك بما بعده.
أخرج عن ابن المنذر أنه قال في الآية كما اختلفت هذه الأنعام تختلف الناس في خشية الله تعالى كذلك، وهذا عندي ضعيف والأظهر ما عليه الجمهور وما قيل أدق وألطف. ابن جريج
والمراد بالعلماء العالمون بالله عز وجل وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الحميدة وسائر شؤونه الجميلة لا العارفون بالنحو والصرف مثلا، فمدار الخشية ذلك العلم لا هذه المعرفة فكل من كان أعلم به تعالى كان أخشى.
روى عن الدارمي قال: قال عطاء موسى عليه السلام يا رب أي عبادك أحكم؟ قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه، قال: يا رب أي عبادك أغنى؟ قال: أرضاهم بما قسمت له، قال: يا رب أي عبادك أخشى؟ قال: أعلمهم بي، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له».
ولكونه المدار ذكرت الخشية بعد ما يدل على كمال القدرة، ولهذه المناسبة فسر كما أخرج عنه ابن عباس ابن المنذر وابن جرير العلماء في الآية بالذين يعلمون أن الله تعالى على كل شيء قدير، وتقديم المفعول لأن المقصود بيان الخاشين والإخبار بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم ولو أخر لكان المقصود بيان المخشي والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره كما في قوله تعالى: ولا يخشون أحدا إلا الله [الأحزاب: 39] والمقام لا يقتضيه بل يقتضي الأول ليكون تعريضا بالمنذرين المصرين على الكفر والعناد وأنهم جهلاء بالله تعالى وبصفاته ولذلك لا يخشون الله تعالى ولا يخافون عقابه.
وأنكر بعضهم إفادة ( إنما ) هنا للحصر وليس بشيء، وروي عن عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنهما قرآ «إنما يخشى الله» بالرفع «العلماء» بالنصب وطعن صاحب النشر في هذه القراءة، وقال : [ ص: 192 ] لعلها لا تصح عنهما، وقد رأينا كتبا في الشواذ ولم يذكروا هذه القراءة وإنما ذكرها أبو حيان وذكرها عن الزمخشري أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن علي بن جنادة في كتابه الكامل وخرجت على أن الخشية مجاز عن التعظيم بعلاقة اللزوم فإن المعظم يكون مهيبا، وقيل الخشية ترد بمعنى الاختيار كقوله:
خشيت بني عمي فلم أر مثلهم
إن الله عزيز غفور تعليل لوجوب الخشية لأن العزة دالة على كمال القدرة على الانتقام، ولا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة، وقيل ذكر ( غفور ) من باب التكميل نظير ما في بيت الغنوي المذكور آنفا.
والآية على ما في بعض الآثار نزلت في رضي الله تعالى عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه. أبي بكر الصديق
إن الذين يتلون كتاب الله أي يداومون على قراءته حتى صارت سمة لهم وعنوانا كما يشعر به صيغة المضارع ووقوعه صلة واختلاف الفعلين، والمراد بكتاب الله القرآن فقد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : هذه آية القراء.
وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن أنها نزلت في ابن عباس حصين بن الحارث بن عبد المطلب القرشي، ثم إن العبرة بعموم اللفظ فلذا قال في التالين: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال السدي : هم المؤمنون أي عامة وهو الأرجح، ويدخل الأصحاب دخولا أوليا، وقيل: معنى يتلون كتاب الله يتبعونه فيعملون بما فيه، وكأنه جعل يتلو من تلاه إذا تبعه أو حمل التلاوة المعروفة على العمل لأنها ليس فيها كثير نفع دونه، وقد ورد: عطاء «رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه».
ويشعر كلام بعضهم باختيار المعنى المتبادر حيث قال: إنه تعالى لما ذكر الخشية وهي عمل القلب ذكر بعدها علم اللسان والجوارح والعبادة المالية، وجوز أن يراد بكتاب الله تعالى جنس كتبه عز وجل الصادق على التوراة والإنجيل وغيرهما فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين بقوله تعالى: وإن يكذبوك إلخ والمضارع لحكاية الحال الماضية، والمقصود من الثناء عليهم وبيان ما لهم حث هذه الأمة على اتباعهم وأن يفعلوا نحو ما فعلوا، والوجه الأول أوجه كما لا يخفى، وعليه الجمهور.