قال إبراهيم الخواص: وعلامة الخوف في القلب دوام المراقبة وعلامة المراقبة التفقد للأحوال النازلة قل إن تخفوا ما في صدوركم من الموالاة أو تبدوه يعلمه الله لأنه مع كل نفس وخطرة ويعلم ما في سماوات الأرواح وأرض الأجسام والله على كل شيء قدير فلا يشغله شأن عن شأن ولا يقيده مظهر عن مظهر يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء لأن كل ما يعمله الإنسان أو يقوله ينتقش منه أثر في نفسه ويسطر في صحائف النفوس السماوية إلا أنه لاشتغاله بالشواغل الحسية والإدراكات الوهمية والخيالية لا يرى تلك النقوش ولا يبصر هاتيك السطور فإذا تجرد عن عالم الكثافة بصر ورأى وشاهد ما به قلم الاستعداد جرى، فإذا وجد سوءا تود نفسه وتتمنى لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا لتعذبها به ويحذركم الله نفسه كرره تأكيدا لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه والله رءوف بالعباد أي بسائرهم فلهذا حذرهم، [ ص: 142 ] أو بمن اتصف بمقام العبودية وانقطع إليه بالكلية قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني لأني سيد المحبين يحببكم الله وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب بنيران الشوق، وروح الروح بلذة العشق، واستغراق الحواس في بحر الأنس، وطهارة النفس بمياه القدس، ورؤية الحبيب بعين الكل، وغمض عين الكل عن الكونين، وطيران السر في غيب الغيب، وتخلق المحب بخلق المحبوب، وهذا أصل المحبة.
وأما فرعها فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه، وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفا، ومتابعة سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة، والسكون في الخلوات والمراقبات، واستنشاق نفحات الصفات، والتواضع والذل في الحركات والسكنات:
مساكين أهل العشق حتى قبورهم عليها تراب الذل بين المقابر
وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعم لأن المحبة متى كانت من تولد رؤية النعماء كانت معلولة، وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب سوى ذات الحبيب، ولذا قالوا: لا تصح المحبة ممن يميز بين النار والجنة وبين السرور والمحنة وبين الفرض والسنة وبين الاعتواض والاعتراض ولا تصح إلا ممن نسي الكل واستغرق في مشاهدة المحبوب وفني فيه:خليلي لو أحببتما لعلمتما محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه وشوق على بعد المراد وقربه
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ضعيف هوى يرجى عليه ثواب
أحبك حبين حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا
القسم الثالث: محبة خواص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكامن «كنت كنزا مخفيا» وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة، وحقيقتها أن يفنى المحب بسطوتها فيبقى بلا هو وربما بقي صاحبها حيران سكران لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى، وفي مثل ذلك قيل:
يقولون إن الحب كالنار في الحشا ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وما هو إلا جذوة مس عودها ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ترى الدهر عبدا طائعا وله الحكم
قل أطيعوا الله والرسول فإن المريد يلزمه متابعة المراد فإن تولوا أي فإن أعرضوا فهم كفار منكرون محجوبون فإن الله لا يحب الكافرين لقصور استعدادهم عن ظهور جماله فيهم إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين الاصطفاء أعم من المحبة والخلة فيشمل الأنبياء كلهم وتتفاضل فيه مراتبهم كما يشير إليه قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض فأخص المراتب هو المحبة، وإليه يشير قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات ثم الخلة، وفي لفظها إشارة إلى ذلك من طريق مخارج الحروف، وأعمها الاصطفاء، فاصطفى آدم بتعليم الصفات وجمع اليدين وإسجاد الأكوان له، ونوحا الذي هو الأب الثاني بتلك الأبوة وبما كان له مع قومه، واصطفى آل إبراهيم وهم الأنبياء من ذريته بظهور أنوار تجليه الخاص على آفاق وجودهم، وآل عمران بجعلهم آية للعالمين ذرية بعضها من بعض في الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان: صورية ومعنوية، وكل نبي تبع نبيا في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه، ويمكن أن يقال: آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها، ونوح هو هي في مقامها الثاني من مقامات التنزل، وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات، وآله القوى الروحانية، وعمران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن، وآله التابعون له في ذلك البيت المقتدون به، وكل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب .
إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا عن رق النفس مخلصا في عبادتك عن الميل إلى السوي فتقبلها ربها بقبول حسن قال الواسطي: محفوظ عن إدراك الخلق وأنبتها نباتا حسنا حيث سقاها من مياه القدرة وأثمرها شجرة النبوة وكفلها زكريا لطهارة سره، وشبيه الشيء منجذب إليه زكريا المحراب وجد عندها رزقا كلما دخل عليها هو ما علمت، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية.
وأخرج من بعض الطرق عن ابن أبي حاتم أنه قال: رزقا أي علما، وقد يقال على نحو الأول ليتم تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس مجاهد، إذ قالت امرأت عمران وهي النفس في أول مراتب طاعتها لعمران العقل إني نذرت لك ما في بطني وهو غلام القلب محررا ليس في رق شيء من المخلوقات فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى وهي نفس أيضا إلا أنها أكمل منها في المرتبة، والجنس يلد الجنس والله أعلم بما وضعت لعلمه أنه سيظهر من هذه الأنثى العجب العجاب، وغيره سبحانه تخفى عليه الأسرار وإني سميتها مريم وهي العابدة [ ص: 144 ] وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم وهو الشهوات النفسانية الحاجبة للنفس القدسية عن رياض الملكوت فتقبلها ربها بقبول حسن وهو اختصاصه إياها بإفاضة أنواره عليها وأنبتها نباتا حسنا ورقاها فيما تكمل به نشأتها ترقيا حسنا غير مشوب بالعوائق والعلائق وكفلها زكريا الاستعداد كلما دخل عليها زكريا وتوجه نحوها في محراب تعبدها المبني لها في بيت مقدس القلب وجد عندها رزقا تتغذى به الأرواح في عالم الملكوت قال يا مريم أنى لك هذا الرزق العظيم قالت هو مفاض من عند الله منزه عن الحمل بيد الأفكار إن الله الجامع لصفات الجمال والجلال يرزق من يشاء ويفيض عليهم من علمه حسب قابليتهم بغير حساب فسبحانه من إله وجواد كريم وهاب.