ومن باب الإشارة في هذه الآيات: لله ما في السماوات أي العوالم الروحانية كلها وما استتر في أستار غيوبه وخزائن علمه وما في الأرض أي العالم الجسماني والظواهر المشاهدة التي هي مظاهر الأسماء والأفعال.
وإن تبدوا ما في أنفسكم يشهده بأسمائه وظواهره فيحاسبكم به وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه ويحاسبكم به، فيغفر لكم لمن يشاء لتوحيده وقوة يقينه وعروض سيئاته وعدم رسوخها في ذاته ويعذب من يشاء لفساد اعتقاده ووجود شكه، أو رسوخ سيئاته في نفسه والله على كل شيء قدير لأن به ظهور كل ظاهر وبطون كل باطن فيقدر على المغفرة والتعذيب آمن الرسول الكامل الأكمل بما أنزل إليه من ربه أي صدقه بقبوله والتخلق به فقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن والترقي بمعانيه والتحقق به والمؤمنون كل آمن بالله وحده مشاهدة حين لم يروا في الوجود سواه وملائكته وكتبه ورسله حين رجوعهم إلى مشاهدتهم، تلك الكثرة مظاهر للوحدة، يقولون لا نفرق بين أحد من رسله برد بعض وقبول بعض لمشاهدة الحق فيهم بالحق وقالوا سمعنا أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا غفرانك ربنا أي اغفر وجوداتنا وصفاتنا واستر ذلك بوجودك وصفاتك فمنك المبدأ وإليك المصير بالفناء فيك لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلا ما يسعها ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات لها ما كسبت من الخير والكمالات والكشوف سواء كان ذلك باعتمال أو بغير اعتمال وعليها ما اكتسبت وتوجهت إليه بالقصد من السوء.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا عهدك بميلنا إلى ظلمة الطبيعة أو أخطأنا بالعمل على غير الوجه اللائق لحضرتك ربنا ولا تحمل علينا إصرا وهو عبء الصفات والأفعال الحابسة للقلوب من [ ص: 72 ] معاينة الغيوب كما حملته على الذين من قبلنا من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات.
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ومشاهدة جمالك بحجب جلالك واعف عنا سيئات أفعالنا وصفاتنا فإنها سيئات حجبتنا عنك وحرمتنا برد وصالك ولذة رضوانك واغفر لنا ذنوب وجودنا فإنه أكبر الكبائر وارحمنا بالوجود الموهوب بعد الفناء أنت مولانا أي سيدنا ومتولي أمورنا لأنا مظاهرك وآثار قدرتك فانصرنا على القوم الكافرين من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها وجنود شياطين أوهامنا المحجوبين عنك الحاجبين إيانا لكفرهم وظلمتهم.
هذا وقد أخرج مسلم من حديث والترمذي ابن عباس: "لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله عليه وسلم قيل له عقيب كل كلمة (قد فعلت)" ، وأخرج أبو سعيد عن والبيهقي الضحاك: "أن جبريل لما جاء بهذه الآية ومعه ما شاء الله تعالى من الملائكة وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له بعد كل كلمة (لك ذلك) حتى فرغ منها"، وأخرج عن أبو عبيد أبي ميسرة: "أن جبريل لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خاتمة البقرة (آمين)" ، وأخرج الأئمة الستة في «كتبهم» عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن مسعود وأخرج " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه "، بسند جيد عن الطبراني شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأخرج " إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان "، ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل، " وأخرج وصححه، الحاكم في «الشعب» عن والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبي ذر وفي رواية " إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن ودعاء "، أبي عبيد عن محمد بن المنكدر "أنهن قرآن وأنهن دعاء وأنهن يدخلن الجنة وأنهن يرضين الرحمن"، وأخرج مسدد عن رضي الله تعالى عنه عمر عن والدارمي كرم الله تعالى وجهه كلاهما قال: "ما كنت أرى أحدا يعقل ينام حتى يقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة"، والآثار في فضلها كثيرة وفيما ذكرنا كفاية لمن وفقه الله تعالى. علي
اللهم اجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب، ووفقنا للعمل الصالح والقول المصيب، واجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء أسماعنا ونزهة أرواحنا، ويسر لنا إتمام ما قصدناه، ولا تجعل لنا مانعا عما بتوفيقك أردناه، وصل وسلم على خليفتك الأعظم وكنزك المطلسم، وعلى آله الواقفين على أسرار كتابك، وأصحابه الفائزين بحكم خطابك ما ارتاحت روح وحصل لقارع باب جودك فتوح.
[ ص: 73 ] سورة آل عمران
وهي مائتا آية، أخرج ابن الضريس والنحاس من طرق عن والبيهقي رضى الله تعالى عنهما أنها نزلت ابن عباس بالمدينة، واسمها في التوراة كما روى سعيد بن منصور طيبة، وفي صحيح تسميتها، والبقرة الزهراوان وتسمى الأمان والكنز والمعنية والمجادلة وسورة الاستغفار، ووجه مناسبتها لتلك السورة أن كثيرا من مجملاتها تشرح بما في هذه السورة، وأن سورة البقرة بمنزلة إقامة الحجة وهذه بمنزلة الشبهة ولهذا تكرر فيها ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقية الكتاب من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم، وتكررت آية مسلم قولوا آمنا بالله وما أنزل بكمالها ولذلك ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم له، فذكر هناك خلق الناس وذكر هنا تصويرهم في الأرحام، وذكر هناك مبدأ خلق آدم وذكر هنا مبدأ أولاده، وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى ولذلك ضرب له المثل بآدم، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول في الوجود وسابق ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم والسورة التي هي فيها جديرة بالتقديم.
وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين الصورتين أنه قال في البقرة في صفة النار : أعدت للكافرين مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا، وقال في آخر هذه : وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة ومما يقوي المناسبة والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت هذه بقوله تعالى : واتقوا الله لعلكم تفلحون وافتتحت الأولى بقوله سبحانه : والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وختمت آل عمران بقوله تعالى : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل من ذا الذي يقرض الله الآية : يا محمد افتقر ربك يسأل عباده القرض فنزل لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وهذا مما يقوي التلازم أيضا، ومثله أنه وقع في البقرة حكاية قول إبراهيم : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الآية، وهنا لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية، إلى غير ذلك.