وقال : من أراد علم الأولين والآخرين فليتل القرآن، ومن المعلوم أن هذا لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر، وقد قال بعض من يوثق به: لكل آية ستون ألف فهم، وروي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحسن قال (لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع)، ابن النقيب : إن ظاهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر، وباطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله تعالى عليها أرباب الحقائق، ومعنى قوله: (ولكل حرف حد) أن لكل حرف منتهى فيما أراده الله تعالى من معناه، ومعنى قوله: (ولكل حد مطلع) أن لكل غامض من المعاني والأحكام مطلعا يتوصل به إلى معرفته، ويوقف عن المراد به، وقيل في رواية: والمذكور بوساطة الألفاظ، وتأليفاتها وضعا وإفادة، وجعلها طرقا إلى استنباط الأحكام الخمسة هو الظهر وروح الألفاظ أعني الكلام المعتلي عن المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية هو البطن، وإليه الإشارة بقول الأمير السابق، والحد إما بين الظهر والبطن يرتقى منه إليه، وهو المدرك بالجمعية من الجمعية، وإما بين البطن والمطلع فالمطلع مكان الاطلاع من الكلام النفسي إلى الاسم المتكلم المشار إليه بقول الصادق: لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده، ولكن لا يبصرون، والحد بينهما يرتقي به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والاسم، واستهلاك صفة العبد تحت تجليات أنوار صفة المتكلم تعالى شأنه، وقيل: الظهر التفسير، والبطن التأويل، والحد ما تتناهى إليه الفهوم من معنى الكلام، والمطلع ما يصعد إليه منه، فيطلع على شهود الملك العلام، انتهى. (لكل آية ظهر، وبطن، وحد، ومطلع)،
فلا ينبغي لمن له أدنى مسكة من عقل بل أدنى ذرة من إيمان أن ينكر اشتمال القرآن على بواطن يفيضها المبدئ الفياض على بواطن من شاء من عباده، ويا ليت شعري ماذا يصنع المنكر بقوله تعالى: وتفصيلا لكل شيء وقوله تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء ، ويالله تعالى العجب، كيف يقول باحتمال ديوان وأبياته المعاني الكثيرة، ولا يقول باشتمال قرآن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآياته، وهو كلام رب العالمين المنزل على خاتم المرسلين على ما شاء الله تعالى من المعاني المحتجبة وراء سرادقات تلك المباني، سبحانك هذا بهتان عظيم، بل ما من حادثة ترسم بقلم القضاء في لوح الزمان إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها، فهو المشتمل على خفايا الملك والملكوت، وخبايا قدس الجبروت. المتنبي
وقد ذكر ابن خلكان في تاريخه: أن السلطان صلاح الدين لما فتح مدينة حلب أنشد القاضي محيي الدين قصيدة بائية [ ص: 8 ] أجاد فيها كل الإجادة، وكان من جملتها:
وفتحك القلعة الشهباء في صفر مبشر بفتوح القدس في رجب
فكان كما قال، فسئل القاضي: من أين لك هذا؟ فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين قال المؤرخ: فلم أزل أتطلب التفسير المذكور حتى وجدته على هذه الصورة، وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراجه، وله نظائر كثيرة، ومن المشهور استنباط ابن الكمال فتح مصر على يد السلطان سليم من قوله تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون فالإنصاف كل الإنصاف التسليم للسادة الصوفية الذين هم مركز للدائرة المحمدية، ما هم عليه، واتهام ذهنك السقيم فيما لم يصل لكثرة العوائق والعلائق إليه.وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار.
(الفائدة الثالثة) اعلم أن لكتاب الله تعالى أسماء أنهاها شيدلة في البرهان إلى خمسة وخمسين اسما، وذكر السيوطي بعد عدها في الإتقان وجوه تسميته بها، ولم يذكر غير ذلك، وعندي أنها كلها ترجع بعد التأمل الصادق إلى القرآن والفرقان رجوع أسماء الله تعالى إلى صفتي الجمال والجلال، فهما الأصل فيها، وقد اختلف الناس في تحقيق لفظ القرآن، فالمروي عن وبه قال جماعة أنه اسم علم غير مشتق، خاص بهذا الكلام المنزل على النبي المرسل، وهو معرفا غير مهموز عنده كما حكاه عنه الشافعي البيهقي وغيرهما، والمنقول عن والخطيب ، وأقوام أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه، وسمي به عندهم لقران السور والآيات والحروف فيه بعضها ببعض، وقال الأشعري : هو مشتق من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضا، ويشبه بعضها بعضا، وهو على هذين القولين بلا همز أيضا، ونونه أصلية، وقال الفراء : هذا القول غلط، والصواب أن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف، ونقل حركتها إلى ما قبلها، فهو عنده وصف مهموز على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع، ومنه قرأت الماء في الحوض إذا جمعته، وسمي به لأنه جمع السور كما قال الزجاج أو ثمرات الكتب السالفة كما قال أبو عبيدة، ، أو لأن القارئ يظهره من فيه أخذا من قولهم: ما قرأت الناقة سلى قط، كما حكي عن الراغب قطرب، وعند اللحياني وجماعة: هو مصدر كالغفران، سمي به المقروء تسمية المفعول بالمصدر، قال السيوطي: قلت: والمختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه رضي الله تعالى عنه، انتهى، وأنا متبرئ من حولي أقول: قول الشافعي أرق من وجه، إذ الشائع فيه الهمز، وبه قرأ السبعة ما عدا الزجاج وقد وجه إسقاطها بما مر آنفا، ولم يوجه إثباتها، وكأن قول ابن كثير، السيوطي محض تقليد لإمام مذهبه، حيث لم يذكر الدليل، ولم يوضح السبيل، وعندي أنه في الأصل وصف، أو مصدر كما قال ، الزجاج واللحياني، لكنه نقل وجعل علما شخصيا كما ذهب إليه ومحققو الأصوليين، وعليه لا يعرف القرآن، لأن التعريف لا يكون إلا للحائق الكلية، ولعل من عرفه بالكلام المنزل للإعجاز بسورة منه أراد تصوير مفهوم لفظ القرآن، وكذا من قال الشافعي كالغزالي أنه: ما نقل بين دفتي المصحف تواترا، أراد تخصيص الاسم بأحد الأقسام الثلاثة مما نقل بين الدفتين، ومما لم ينقل، كالمنسوخ تلاوته نحو: (إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة)، وما نقل ولم يتواتر نحو: (ثلاثة أيام متتابعات)، ليعلم أن ذلك هو الدليل، وعليه الأحكام، من نحو منع التلاوة، والمس محدثا، وإلا فيرد على الأول إن أريد التمييز أن كونه للإعجاز ليس لازما بينا، إذ لا يعرفه إلا الأفراد من العلماء فضلا [ ص: 9 ] عن أن يكون ذاتيا، فكيف يصح لتعريف الحقيقة، وتمييزها، وهو إنما يكون بالذاتيات، أو باللوازم البينة، وأيضا أن معرفة السورة منه متوقفة على معرفته، فيدور، ويرد على الثاني مثل ثاني ما ورد على الأول، إذ معرفة المصحف موقوفة على معرفة القرآن، إذ ليس هو إلا ما كتب فيه القرآن، فأخذه في تعريفه دور أيضا، هذا، وقد قال ساداتنا الصوفية أفاض الله تعالى علينا من فتوحاتهم القدسية: إن القرآن إشارة إلى الذات التي يضمحل بها جميع الصفات، فهي المجلى المسمى بالأحدية أنزلها الحق تعالى شأنه على نبيهمحمد صلى الله عليه وسلم، ليكون مشهد الأحدية من الأكوان، ومعنى هذا الإنزال أن الحقيقة الأحدية المتعالية في ذراها ظهرت فيه صلى الله عليه وسلم، بكمالها، وما ادخر عنه شيء، بل أفيض عليه الكل، كرما إليها ذاتيا، ووصف القرآن في بعض الآيات بالكريم لذلك، إذ أي كرم يضاهي هذا الكرم، وأنى تقاس هذه النعمة بسائر النعم، وأما القرآن الحكيم، فهوية الحقائق الإلهية يعرج العبد بالتحقيق بها في الذات شيئا فشيئا، على ما اقتضته الحكمة، وإلى ذلك أشار الحق تعالى بقوله: ورتلناه ترتيلا وهذا الحكم لا ينقطع أبدا إذ لا يزال العبد في ترق، والحق في تجل، فسبحان من لا تقيده الأكوان، وهو كل يوم في شان، وأما القرآن العظيم في قوله تعالى: ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم فهو إشارة إلى الجملة الذاتية لا باعتبار النزول ولا باعتبار المكانة بل مطلق الأحدية الذاتية التي هي في مطلق الهوية الجامعة لجميع المراتب والصفات والشؤون والاعتبارات، ولهذا قرن بالعظيم، وأما السبع المثاني فهو ما ظهر عليه في وجوده من التحقق بالصفات السبع، وأما قوله تعالى: الرحمن علم القرآن فهو إشارة إلى أن العبد إذا تجلى عليه الرحمن وجد لذة رحمانية تكسبه معرفة قرآنية، فلا يعلم الحق إلا من طريق أسمائه وصفاته، وأما الفرقان عندهم فإشارة إلى حقيقة الأسماء والصفات على اختلاف تنوعاتها فباعتباراتها تتميز كل صفة واسم من غيرها، فحصل الفرق في نفس الحق من حيث أسماؤه، وصفاته، فإن اسمه المنعم غير اسمه المنتقم، وصفة الرضا غير صفة الغضب، وإليه الإشارة بقوله: وهي متفاوتة المراتب في الفضل نظرا إلى أعيانها، لا باعتبار أن في شيء منها نقصا، أو مفضولية، ولهذا حكمت بعضها على بعض كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: (سبقت رحمتي غضبي)، فكانت المعافاة أفضل من العقوبة، والرضا أفضل من السخط، فأعاذه بالفاضل مما يليه، وكذا أعاذه بذاته من ذاته، فكما أن الفرق حاصل في الأفعال كذلك في الصفات، بل في نفس واحدية الذات التي لا فرق فيها، لكن من غريب شئونها جمعها النقيضين قال (أعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك)، أبو سعيد : عرفت الله تعالى بجمعه بين الضدين، ولكونه صلى الله عليه وسلم مظهرا للقرآن، والفرقان، كان خاتم النبيين، وإمام المرسلين، لأنه ما ترك شيئا يحتاج إليه إلا وقد جاء به، فلا يجد الذي يأتي بعده من الكمال شيئا مما ينبغي أن ينبه عليه، قال تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال تعالى: وكل شيء فصلناه تفصيلا إلى غير ذلك من الآيات.
(وقد يقال): القرآن والفرقان إشارتان إلى مقام الجمع، والفرق بأقسامهما، قالوا: ولا بد للعبد الكامل منهما، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له، ومن لا جمع له لا معرفة له، والجمع عندهم شهود الأشياء بالله تعالى، والتبري من الحول والقوة إلا بالله، وجمع الجمع الاستهلاك بالكلية، والفناء عما سوى الله تعالى، وهو المرتبة الأحدية، والفرق أنواع فرق أول، وهو الاحتجاب بالخلق عن الحق، وبقاء رسوم الخليقة بحالها، وفرق ثان، وهو شهود قيام الخلق بالحق، ورؤية الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة من غير احتجاب إحداهما عن الأخرى، وفرق الوصف وهو ظهور الذات الأحدية بأوصافها في الحضرة الواحدة، وفرق الجمع وهو تكثر الواحد بظهوره في المراتب [ ص: 10 ] التي هي ظهور شئون الذات الأحدية وتلك الشؤون في الحقيقة اعتبارات محضة لا تحقق لها إلا عند بروز الواحد بصورها، وكثيرا ما يطلقون القرآن على العلم اللدني الإجمالي الجامع للحقائق كلها، والفرقان على العلم التفصيلي الفارق بين الحق والباطل، وكتاب الله تعالى جامع لذلك كله كما لا يخفى على أهله، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن القرآن يتضمن الفرقان، والفرقان يتضمن القرآن، لأن تفاصيل المراتب والأسماء المقتضية لها موجودة في الجمع، والجمع لا يوجد في التفاصيل، ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فليفهم، ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، ويزيل بعلمه جهلنا إنه على ما يشاء قدير.