قال لن أرسله معكم بعد أن عاينت منكم ما أجرى المدامع حتى تؤتون موثقا من الله أي حتى تعطوني ما أتوثق به من جهته فالموثق مصدر ميمي بمعنى المفعول وأراد عليه السلام أن يحلفوا له بالله تعالى وإنما جعل الحلف به سبحانه موثقا منه لأنه مما تؤكد العهود به وتشدد وقد أذن الله تعالى بذلك فهو إذن منه تعالى شأنه لتأتنني به جواب قسم مضمر إذ المعنى حتى تحلفوا بالله وتقولوا والله لنأتينك به .
وفي مجمع البيان نقلا عن أنه عليه السلام طلب منهم أن يحلفوا ابن عباس بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين والظاهر عدم صحة الخبر وذكر العمادي أنه عليه السلام قال لهم : قولوا بالله رب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لنأتينك به إلا أن يحاط بكم أي إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو إلا أن تهلكوا جميعا وكلاهما مروي عن وأصله من إحاطة العدو واستعماله في الهلاك لأن من أحاط به العدو فقد هلك غالبا والاستثناء قيل مفرغ من أعم الأحوال والتقدير لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم ورد بأن المصدر من ( أن ) والفعل لا يقع موقع الحال كالمصدر الصريح فيجوز جئتك ركضا أي راكضا دون جئتك أن تركض وإن كان في تأويله لما أن الحال عندهم نكرة و ( أن ) مع ما في حيزها معرفة في رتبة الضمير وأجيب بأنه ليس المراد بالحال الحال المصطلح عليها بل الحال اللغوية ويؤول ذلك إلى نصب المصدر المؤول على الظرفية وفيه نظر وفي البحر أنه لو قدر كون أن والفعل في موقع المصدر الواقع ظرف زمان أي لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي إلا وقت إحاطة بكم لم يجز عند مجاهد لأنه يمنع وقوع المصدر المؤول ظرفا ويشترط المصدر الصريح فيجوز خرجنا صياح الديك دون خرجنا أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك وجاز عند ابن الأنباري المجوز لذاك كما في قول ابن جني أبي ذؤيب الهذلي :
وتالله ما إن شهلة أم واحد بأوجد مني أن يهان صغيرها
وقيل : من أعم العلل على تأويل الكلام بالنفي الذي ينساق إليه أي لتأتنني ولا تمتنعن من الإتيان به إلا الإحاطة بكم كقولهم : أقسمت عليك إلا فعلت أي ما أطلب إلا فعلك والظاهر اعتبار التأويل على الوجه الأول أيضا فإن الاستثناء فيه مفرغ كما علمت وهو لا يكون في الإثبات إلا إذا كان صح وظهر إرادة العموم فيه نحو قرأت إلا يوم الجمعة لإمكان القراءة في كل يوم غير الجمعة وهنا غير صحيح لأنه لا يمكن لإخوة يوسف عليه السلام أن يأتوا بأخيهم في كل وقت وعلى كل حال سوى وقت الإحاطة بهم لظهور أنهم لا يأتون به له وهو في الطريق أو في مصر اللهم إلا أن يقال : إنه من ذلك القبيل وأن العموم والاستغراق فيه عرفي أي في كل حال يتصور الإتيان فيها وتعقب المولى أبو السعود تجويز الأول بلا تأويل بقوله : وأنت تدري أنه حيث لم يكن الإتيان من الأفعال الممتدة الشاملة للأحوال على سبيل المعية كما في قولك : لألزمنك إلا أن تقضيني حقي ولم يكن مراده عليه السلام مقارنته على سبيل البدل لما عدا الحال المستثناة كما إذا قلت : صل إلا أن تكون محدثا [ ص: 15 ] بل مجرد تحققه ووقوعه من غير إخلال به كما في قولك : لأحجن العام إلا أن أحصر فإن مرادك إنما هو الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عن الحج لا الإخبار بمقارنته لتلك الأحوال على سبيل البدل كما هو مرادك في مثال الصلاة كان اعتبار الأحوال معه من حيث عدم منعها منه فآل المعنى إلى التأويل المذكور . اهـ .
وبحث فيه واحد من الفضلاء بثلاثة أوجه الأول أنه لو كان المراد من قوله : لتأتنني به الإخبار بمجرد تحقق الإتيان ووقوعه من غير إخلال به لم يحتج إلى التأويل المذكور أعني التأويل بالنفي كما لا يخفى على المتأمل فكلامه يفيد خلاف مراده الثاني أنا سلمنا أن ليس مراد القائل من قوله : لأحجن .. إلخ الإخبار بمقارنة الحج لما عدا حال الإحصار على سبيل البدل لكن لا نسلم أن ليس مراده منه إلا الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عنه غايته أن بينهما ملازمة وذاك لا يستلزم الاحتياج إلى التأويل بالنفي الثالث أنه إن أراد من قوله : كان اعتبار الأحوال .. إلخ أن الإتيان به لم يكن معه اعتبار الأحوال كما هو الظاهر فممنوع وإن أراد أن اعتبار الأحوال معه يستلزم حيثية عدم منعها منه فمسلم لكن لا يلزم منه الاحتياج إلى التأويل المذكور أيضا وليس المدعى إلا ذاك . اهـ . وهو كما ترى فتبصر ثم إنهم أجابوه عليه السلام إلى ما أراد فلما آتوه موثقهم عهدهم من الله تعالى حسبما أراد عليه السلام قال عرضا لثقته بالله تعالى وحثا لهم على مراعاة حلفهم به عز وجل الله على ما نقول في أثناء طلب الموثق وإيتائه من الجانبين وإيثار صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة المؤدي إلى تثبتهم ومحافظتهم على تذكره ومراقبته وكيل . (66) . أي مطلع رقيب فإن الموكل بالأمر يراقبه ويحفظه قيل : والمراد أنه سبحانه مجاز على ذلك .