ومن هنا مع كون الكلام على نفي الفاعل دون الفعل كما قيل ذهب إلى اسمية الجملة حيث قدر المبتدأ أي: فأنتم لم تقتلوهم، وجعل بعضهم المذكور علة الجزاء أقيمت مقامه وقال: إن الأصل: إن افتخرتم بقتلهم فلا تفتخروا به لأنكم لم تقتلوهم ونظائره كثيرة، ولعل كلام الزمخشري أبي حيان كما قال أولى، والخطاب في قوله سبحانه: السفاقسي وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى خطاب لنبيه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين وهو إشارة إلى رميه صلى الله تعالى عليه وسلم بالحصى يوم بدر وما كان منه.
فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لما طلعت قريش من العقنقل: هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها، اللهم إني أسألك ما وعدتني، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: أعطني قبضة من حصباء الوادي فرمى بها وجوههم فقال: فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه [ ص: 185 ] فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم.
وجاء من عدة طرق ذكرها الحافظ ابن حجر أن هذا الرمي كان يوم بدر، وزعم الطيبي أنه لم يكن إلا يوم حنين وأن أئمة الحديث لم يذكر أحد منهم أنه كان يوم بدر وهو كما قال الحافظ السيوطي ناشئ من قلة الاطلاع فإنه عليه الرحمة لم يبلغ درجة الحفاظ ومنتهى نظره الكتب الست ومسند ومسند أحمد وإلا فقد ذكر المحدثون أن الرمي قد وقع في اليومين فنفي وقوعه في يوم بدر مما لا ينبغي، وذكر ما في حنين في هذه القصة من غير قرينة بعيد جدا، وما ذكره في تقريب ذلك ليس بشيء كما لا يخفى على من راجعه وأنصف، ويرد نحو هذا على ما روي عن الدارمي الزهري. من أن الآية إشارة إلى رميه عليه الصلاة والسلام يوم وسعيد بن المسيب أحد فإن اللعين أبي بن خلف قصده عليه الصلاة والسلام فاعترض رجال من المسلمين له ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: استأخروا فاستأخروا، فأخذ عليه الصلاة والسلام حربته بيده فرماه بها فكسر ضلعا من أضلاعه، وفي رواية خدش ترقوته فرجع إلى أصحابه ثقيلا وهو يقول: قتلني محمد. فطفقوا يقولون: لا بأس عليك فقال: والله لو كانت بالناس لقتلتهم فجعل يخور حتى مات ببعض الطريق.
وما أخرج عن ابن جرير، عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق؛ وذلك في خيبر دعا بقوس فأتي بقوس طويلة فقال عليه الصلاة والسلام: جيئوني بقوس غيرها فجاؤوه بقوس كبداء فرمى صلى الله تعالى عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله تعالى الآية.
والحق المعول عليه هو الأول، وتجريد الفعل عن المفعول به لما أن المقصود بيان حال الرمي نفيا وإثباتا إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغير المرمي به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الجم الغفير شيء من ذلك، والمعنى على ما قيل: وما فعلت أنت يا محمد، تلك الرمية المستتبعة لتلك الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة ولكن الله تعالى فعلها أي: خلقها حين باشرتها على أكمل وجه حيث أوصل بها الحصباء إلى أعينهم جميعا، واستدل بالآية على أن قال الإمام: أثبت سبحانه كونه صلى الله تعالى عليه وسلم راميا ونفى كونه راميا فوجب حمله على أنه عليه الصلاة والسلام رمى كسبا والله تعالى رمى خلقا، وقال أفعال العباد بخلقه تعالى وإنما لهم كسبها ومباشرتها ابن المنير: إن علامة المجاز أن يصدق نفيه حيث يصدق ثبوته ألا تراك تقول للبليد حمار ثم تقول ليس بحمار، فلما أثبت سبحانه الفعل للخلق ونفاه عنهم دل على أن نفيه على الحقيقة وثبوته على المجاز بلا شبهة، فالآية تكفح بل تلفح وجوه القدرية بالرد، فإن قلت: إن أهل المعاني جعلوا ذلك من تنزيل الشيء منزلة عدمه وفسروه بما رميت حقيقة إذ رميت صورة والرمي الصوري موجود والحقيقي لم يوجد فلا تنزيل (أجيب) بأن الصوري مع وجود الحقيقي كالعدم وما هو إلا كنور الشمع مع شعشعة الشمس ولذا أتي بنفيه مطلقا كإثباته، وما ذكروه بيان لتصحيح المعنى في نفس الأمر وهو لا ينافي النكتة المبنية على الظاهر، ولذا قال في شرح المفتاح: النفي والإثبات واردان على شيء واحد باعتبارين فالمنفي هو الرمي باعتبار الحقيقة كما أن المثبت هو الرمي باعتبار الصورة، والمشهور حمل الرمي في حيز الاستدراك على الكامل وهو الرمي المؤثر ذلك التأثير العظيم، واعترض بأن المطلق ينصرف [ ص: 186 ] إلى الفرد الكامل لتبادره منه، وأما ما جرى على خلاف العادة وخرج عن طريق البشر فلا يتبادر حتى ينصرف إليه بل ذلك ليس من أفراده (وأجيب) بأنا لا ندعي إلا الفرد الكامل من ذاك المطلق حسبما تقتضيه القاعدة، وكون ذلك الفرد جاريا على خلاف العادة وخارجا عن طوق البشر إنما جاء من خارج، ووصف الرمي بما ذكر بيان لكماله، ولا يستدعي ذلك أن لا يكون من أفراد المطلق ومن ادعاه فقد كابر. واعترض على التفسير الأول بأنه مشعر بتفسير (رمى) في حيز الاستدراك بخلق الرمي وتفسير (رميت) في حيز النفي بخلقت الرمي، فحاصل المعنى حينئذ: وما خلقت الرمي إذ صدر عنك صورة، ولكن الله سبحانه خلقه، ويلزم منه صحة أن يقال مثلا: ما قمت ولكن الله سبحانه قام على معنى ما خلقت القيام إذ صدر عنك صورة ولكن الله تبارك وتعالى خلقه ولا أظنك في مرية من عدم صحة ذلك (وأجيب) بأن القياس يقتضي صحة ذلك إلا أن مدار الأمر على التوقيف، واعترض على ما يستدعيه كلام ابن المنير من أن المعنى وما رميت حقيقة إذ رميت مجازا ولكن الله تعالى رمى حقيقة بأن نفي الرمي حقيقة حين إثباته مجازا من أجلى البديهيات فأي فائدة في الإخبار بذلك، قيل: ومثل ذلك يرد على كلام الإمام لأن كسب العبد للفعل عندهم على المشهور عبارة عن محلية العبد للفعل من غير تأثير لقدرته في إيجاده ويؤول ذلك إلى مباشرة له من غير خلق، فيكون المعنى: وما خلقت الرمي إذ باشرت ولم تخلق وهو كما ترى، وهو كما ترى، وبالجملة كلام أكثر أهل الحق في تفسير الآية، والاستدلال بها وكذا بالآية قبلها على مذهبهم لا يخلو عن مناقشة ما، ولعل الجواب عنها متيسر لأهله.
وقال بعض المحققين: إنه أثبت له صلى الله تعالى عليه وسلم الرمي لصدوره عنه عليه الصلاة والسلام ونفى عنه لأن أثره ليس في طاقة البشر، ولذا عد ذلك معجزة حتى كأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا مدخل له فيه، فمبنى الكلام على المبالغة ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع؛ لأن معناه الحقيقي غير مقصود، ولا يصح أن تخرج الآية على الخلق والمباشرة؛ لأن جميع أفعال العباد بمباشرتهم وخلق الله تعالى فلا يكون للتخصيص بهذا الرمي معنى، وله وجه، وإن قيل عليه ما قيل. وأنا أقول: إن للعبد قدرة خلقها الله تعالى له مؤثرة بإذنه فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن، لا أنه لا قدرة له أصلا كما يقول الجبرية، ولا أن له قدرة غير مؤثرة كما هو المشهور من مذهب الأشاعرة، ولا أن له قدرة مؤثرة بها يفعل ما لا يشاء الله تعالى فعله كما يقول المعتزلة، وأدلة ذلك قد بسطت في محلها وألفت فيها رسائل تلقم المخالف حجرا، وليس إثبات صحة هذا القول وكذا القول المشهور عند الأشاعرة عند من يراه موقوفا على الاستدلال بهذه الآية حتى إذا لم تقم الآية دليلا يبقى المطلب بلا دليل.
فإذا كان الأمر كذلك فأنا لا أرى بأسا في أن يكون الرمي المثبت له صلى الله تعالى عليه وسلم هو الرمي المخصوص الذي ترتب عليه ما ترتب مما أبهر العقول وحير الألباب، وإثبات ذلك له عليه الصلاة والسلام حقيقة على معنى أنه فعله بقدرة أعطيت له صلى الله تعالى عليه وسلم مؤثرة بإذن الله تعالى إلا أنه لما كان ما ذكر خارجا عن العادة إذ المعروف في القدر الموهوبة للبشر أن لا تؤثر مثل هذا الأثر نفى ذلك عنه وأثبت لله سبحانه مبالغة، كأنه قيل: إن ذلك الرمي وإن صدر منك حقيقة بالقدرة المؤثرة بإذن الله سبحانه لكنه لعظم أمره وعدم مشابهته لأفعال البشر كأنه لم يصدر منك بل صدر من الله جل شأنه بلا واسطة، وكذا يجوز أن يكون المعنى وما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله تعالى رمى بالرعب، فالرمي المنفي أولا والمثبت أخيرا غير [ ص: 187 ] المثبت في الأثناء وعلى الوجهين يظهر بأدنى تأمل وجه تخالف أسلوبي الآيتين حيث لم يقل: وما رميت ولكن الله رمى ليكون على أسلوب: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، ولا فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ولكن الله قتلهم ليكون على أسلوب: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ولا يظهر لي نكتة في هذا التخالف على الوجوه التي ذكرها المعظم، وكونها الإشارة إلى أن الرمي لم يكن في تلك الوقعة كالقتل بل كان في حنين دونه على ما فيه مخالف لما صح من أن كلا الأمرين كان في تلك الوقعة كما علمت فتأمل فلمسلك الذهن اتساع، وقرئ: (ولكن الله) بالتخفيف ورفع الاسم الجليل في المحلين. وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا أي: ليعطيهم سبحانه من عنده إعطاء جميلا غير مشوب بالشدائد والمكاره على أن البلاء بمعنى العطاء كما في قول زهير:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم فأبلاهما خير البلاء الذي يبلي
واختار بعضهم تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده يقال: أبلى فلان بلاء حسنا أي: قاتل قتالا شديدا وصبر صبرا عظيما، سمي به ذلك الفعل لأنه ما يخبر به المرء فتظهر جلادته وحسن أثره، واللام إما للتعليل متعلق بمحذوف متأخر فالواو اعتراضية أي: وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعل ما فعل لا لشيء آخر غير ذلك مما لا يجديهم نفعا، وإما برمي فالواو للعطف على علة محذوفة أي: ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي إلخ.وقوله تعالى: إن الله سميع أي: لدعائهم واستغاثتهم أو لكل مسموع ويدخل فيه ما ذكر عليم أي: بنياتهم وأحوالهم الداعية للإجابة أو لكل معلوم ويدخل فيه ما ذكر أيضا تعليل للحكم