الذين يتبعون الرسول الذي أرسله الله تعالى لتبليغ الأحكام. النبي [ ص: 79 ] أي الذي أنبأ الخلق عن الله تعالى، فالأول تعتبر فيه الإضافة إلى الله تعالى، والثاني تعتبر فيه الإضافة إلى الخلق، وقدم الأول عليه لشرفه، وتقدم إرسال الله تعالى له على تبليغه، وإلى هذا ذهب بعضهم، وجعلوا إشارة إلى أن الرسول والنبي هنا مراد بهما معناهما اللغوي لإجرائهما على ذات واحدة كما أنهما كذلك في قوله تعالى: ( وكان رسولا نبيا ) وفسر في الكشاف الرسول بالذي يوحى إليه كتاب، والنبي بالذي له معجزة، ويشير إلى بأن الرسول من له كتاب خاص والنبي أعم. وتعقبه في الكشف بأن أكثر الرسل لم يكونوا أصحاب كتاب مستقل الفرق بين الرسول والنبي كإسماعيل ولوط وإلياس عليهم السلام، وكم وكم، ثم قال: والتحقيق أن النبي هو الذي ينبئ عن ذاته تعالى وصفاته وما لا تستقل العقول بدرايته ابتداء بلا واسطة بشر، والرسول هو المأمور مع ذلك بإصلاح النوع، فالنبوة نظر فيها إلى الإنباء عن الله تعالى، والرسالة إلى المبعوث إليهم، والثاني وإن كان أخص وجودا إلا أنهما مفهومان مفترقان ولهذا لم يكن رسولا نبيا مثل إنسان حيوان. اه.
وفيه مخالفة بينة لما ذكر أولا، ولا حجر في الاعتبار. نعم ما ذكروه مدفوع بأن الفرق المذكور مع تغاير المفهومين على كل حال من عرف الشرع والاستعمال، وأما في الوضع والحقيقة اللغوية فهما عامان. وقد ورد في القرآن بالاستعمالين فلا تعارض بينهما.
ولا يرد أن ذكر النبي العام بعد الخاص لا يفيد والمعروف في مثل ذلك العكس، ولا يخفى أن المراد بهذا الرسول النبي نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، الأمي أي الذي لا يكتب ولا يقرأ، وهو على ما قال نسبة إلى أمة الزجاج العرب؛ لأن الغالب عليهم ذلك.
وروى الشيخان وغيرهما عن قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ابن عمر «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب».
أو إلى أم القرى؛ لأن أهلها كانوا كذلك، ونسب ذلك إلى رضي الله تعالى عنه أو إلى أمه كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها، ووصف عليه الصلاة والسلام بذلك تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته صلى الله تعالى عليه وسلم، فهو بالنسبة إليه - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام صفة مدح، وأما بالنسبة إلى غيره فلا، وذلك كصفة التكبر؛ فإنها صفة مدح لله عز وجل وصفة ذم لغيره. الباقر
واختلف في أنه عليه الصلاة والسلام: هل صدر عنه الكتابة في وقت أم لا؟ فقيل: نعم صدرت عنه عام الحديبية، فكتب الصلح وهي معجزة أيضا له صلى الله تعالى عليه وسلم، وظاهر الحديث يقتضيه، وقيل: لم يصدر عنه أصلا، وإنما أسندت إليه في الحديث مجازا.
وجاء عن بعض أهل البيت رضي الله عنهم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان تنطق له الحروف المكتوبة إذا نظر فيها.
ولم أر لذلك سندا يعول عليه، وهو صلى الله تعالى عليه وسلم فوق ذلك.
نعم أخرج من طريق أبو الشيخ قال: حدثني مجاهد، عون بن عبد الله بن عتبة عن أبيه، قال: (ما مات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى قرأ وكتب). فذكرت هذا الحديث للشعبي فقال: صدق، سمعت أصحابنا يقولون ذلك. وقيل: الأمي نسبة إلى الأم بفتح الهمزة بمعنى القصد؛ لأنه المقصود، وضم الهمزة من تغيير النسب، ويؤيده قراءة يعقوب (الأمي) بالفتح وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضا، والموصول في محل جر بدل من الموصول الأول، هو إما بدل كل على أن المراد منه هؤلاء المعهودين أو بعض على أنه عام ويقدر حينئذ منهم، وجوز أن يكون نعتا له، ويحتمل أن يكون في محل نصب على القطع وإضمار ناصب له، وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقيل: على أنه مبتدأ خبره جملة (يأمرهم)، أو (أولئك هم المفلحون)، [ ص: 80 ] وكلاهما خلاف المتبادر من النظم. الذي يجدونه مكتوبا باسمه ونعوته الشريفة بحيث لا يشكون أنه هو؛ ولذلك عدل عن أن يقال: يجدون اسمه أو وصفه مكتوبا. عندهم ظرف ل مكتوبا الواقع حالا أو ل يجدون، وذكر لزيادة التقرير، وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضرة عندهم لا يغيب عنهم أصلا. في التوراة والإنجيل اللذين يعتد بهما بنو إسرائيل سابقا ولاحقا، وكأنه لهذا المعنى اقتصر عليهما وإلا فهو صلى الله تعالى عليه وسلم مكتوب في الزبور أيضا.
أخرج ابن سعد، في مسنده، والدارمي في الدلائل، والبيهقي عن وابن عساكر، قال: «صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة: يا أيها النبي، إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا». ومثله من رواية عبد الله بن سلام وغيره عن البخاري عبد الله بن عمرو بن العاص.
وجاء من حديث أخرجه ابن سعد، من طريق وابن عساكر، موسى بن يعقوب الربعي عن سهل مولى خيثمة قال: «قرأت في الإنجيل نعت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، لا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير ويحلب الشاة، ويلبس قميصا مرقوعا، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر وهو يفعل ذلك، وهو من ذرية إسماعيل، اسمه أحمد».
وجاء من خبر أخرجه في الدلائل عن البيهقي قال: «إن الله تعالى أوحى في الزبور: يا وهب بن منبه، داود، إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، لا أغضب عليه أبدا، ولا يعصيني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة، أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء؛ وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم، يا داود، إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلهم، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافا مضاعفة، ولهم عندي أضعاف مضاعفة، وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم، فإما أن يروه عاجلا، وإما أن أصرف عنهم سوءا، وإما أن أدخره لهم في الآخرة، يا داود، من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا الله وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذب محمدا وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه من قبره العذاب صبا، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره في قبره، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار».
إلى غير ذلك من الأخبار الناطقة بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم مكتوب في الكتب الإلهية، والظرفان متعلقان ب يجدونه أو ب مكتوبا. وذكر الإنجيل قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن الكريم قبل مجيئهما.
يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر كلام مستأنف، وهو على ما قيل متضمن لتفصيل بعض أحكام [ ص: 81 ] الرحمة التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالا؛ إذ ما أشارت إليه المتعاطفات من آثار الرحمة الواسعة وجوز كونه في محل نصب على أنه حال مقدرة من مفعول يجدونه أو من المستكن في مكتوبا، وقيل: هو مفسر ل مكتوبا، أي: لما كتب، والمراد بالمعروف قيل الإيمان، وقيل: ما عرف في الشريعة، والمراد بالمنكر ضد ذلك. ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فسر الأول بالأشياء التي يستطيبها الطبع كالشحوم، والثاني بالأشياء التي يستخبثها كالدم، فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل، وفي كل ما تستخبثه النفس ويكرهه الطبع الحرمة إلا لدليل منفصل، وفسر بعضهم الطيب بما طاب في حكم الشرع، والخبيث بما خبث فيه كالربا والرشوة.
وتعقب بأن الكلام حينئذ يحل ما يحكم بحله ويحرم ما يحكم بحرمته، ولا فائدة فيه. وردوه بأنه يفيد فائدة، وأي فائدة؛ لأن معناه: أن الحل والحرمة بحكم الشرع لا بالعقل والرأي، وجوز بعضهم كون الخبيث بمعنى ما يستخبث طبعا، أو ما خبث شرعا، وقال: كالدم أو الربا ومثل للطيب بالشحم، وجعل ذلك مبنيا على اقتضاء التحليل سبق التحريم، والشحم كان محرما عند بني إسرائيل، وعلى اقتضاء التحريم سبق التحليل، وجعل الدم وأخيه مما حرم على هذا؛ لأن الأصل في الأشياء الحل، ولا يرد: وأحل الله البيع وحرم الربا لأنه لرد قولهم: إنما البيع مثل الربا أو لأن المراد إبقاؤه على حله لمقابلته بتحريم الربا، ودفع بهذا ما توهم من عدم الفائدة. ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم أي: يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة؛ كقطع موضع النجاسة من الثوب أو منه ومن البدن، وإحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتعين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية؛ فإنه وإن لم يكن مأمورا به في الألواح إلا أنه شرع بعد تشديدا عليهم على ما قيل، وأصل الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحراك، والأغلال جمع غل بضم الغين، وهي في الأصل كما قال الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضا، ولعل غير الحديد إذا جمع به يد إلى عنق يقال له ذلك أيضا، والمراد منهما هنا ما علمت، وهو المأثور عن كثير من السلف، ولا يخفى ما في الآية من الاستعارة. ابن الأثير:
وجوز أن يكون هناك تمثيل، وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبادة، وعلى هذا فالأغلال يمكن أن يراد حقيقته، وقرأ (آصارهم) على الجمع، وقرأ: (أصرهم) بالفتح على المصدر، وبالضم على الجمع أيضا. ابن عامر: فالذين آمنوا به أي: صدقوا برسالته ونبوته. وعزروه أي: عظموه ووقروه كما قال رضي الله تعالى عنهما، وقال ابن عباس التعزير النصرة مع التعظيم، والتعزير الذي هو دون الحد يرجع إليه لأنه تأديب، والتأديب نصرة؛ لأن أخلاق السوء أعداء، ولذا قال في الحديث: الراغب: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. فقيل: كيف أنصره ظالما؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تكفه عن الظلم».
وأصله عند غير واحد المنع، والمراد منعه حتى لا يقوى عليه عدو، وقرئ: (عزروه) بالتخفيف ونصروه على أعدائه في الدين، وعطف هذا على ما قبله ظاهر على ما روي عن وكذا على ما قاله الجمع؛ إذ الأول عليه من قبيل درء المفاسد، وهذا من قبيل جلب المصالح، ومن فسر الأول بالتعظيم مع التقوية أخذا من كلام الحبر، قال هنا: نصروه لي. [ ص: 82 ] أي: قصدوا بنصره وجه الله تعالى وإعلاء كلمته فلا تكرار؛ خلافا لمن توهمه. الراغب واتبعوا النور الذي أنزل معه وهو القرآن، وعبر عنه بالنور لظهوره في نفسه بإعجازه وإظهاره لغيره من الأحكام وصدق الدعوى، فهو أشبه شيء بالنور الظاهر بنفسه، والمظهر لغيره، بل هو نور على نور، والظرف إما متعلق ب أنزل، والكلام على حذف مضاف؛ أي: مع نبوته أو إرساله عليه السلام؛ لأنه لم ينزل معه وإنما نزل مع جبريل عليه السلام.
نعم استباؤه أو إرساله كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به وإما متعلق ب اتبعوا على معنى شاركوه في اتباعه وحينئذ لم يحتج إلى تقدير، وقد يعلق به على معنى اتبعوا القرآن مع اتباعهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إشارة إلى العمل بالكتاب والسنة، وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير اتبعوا، أي اتبعوا النور مصاحبين له في اتباعه، وحاصله ما ذكر في الاحتمال الثاني، وأن يكون حالا مقدرة من نائب فاعل أنزل. وفي مجمع البيان أن مع بمعنى على وهو متعلق ب أنزل ولم يشتهر، وروي ذلك، وقال بعضهم: هي هنا مرادفة لعند وهو أحد معانيها المشهورة إلا أنه لا يخفى بعده وإن قيل حاصل المعنى حينئذ أنزل عليه. أولئك أي المنعوتون بتلك النعوت الجليلة؛ هم المفلحون أي: هم الفائزون بالمطلوب لا المتصفون بأضداد صفاتهم، وفي الإشارة إشارة إلى علية تلك الصفات للحكم، وكاف البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الدرجة في الفضل والشرف، والمراد من الموصول المخبر عنه بهذه الجملة عند رضي الله تعالى عنه اليهود الذين آمنوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: ما يعمهم وغيرهم من أمته عليه الصلاة والسلام المتصفين بعنوان الصلة إلى يوم القيامة، والاتصاف بذلك لا يتوقف على إدراكه صلى الله تعالى عليه وسلم كما لا يخفى وهو الأولى عندي. ابن عباس
وادعى بعضهم أن المراد من الموصول في قوله تعالى: فسأكتبها للذين يتقون المعنى الأعم أيضا، وجعله ابن الخازن قول جمهور المفسرين، وفيه ما فيه ومما يقضي منه العجب كون المراد منه اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، والجملة متفرعة على ما تقدم من نعوته صلى الله تعالى عليه وسلم الجليلة الشأن، وقيل: على كتب الرحمة لمن مر، وذكر شيخ الإسلام أنها تعليم لكيفية اتباعه عليه السلام وبيان علو رتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة الواسعة في الدارين إثر بيان نعوته الجليلة والإشارة إلى إرشاده عليه الصلاة والسلام وإياهم بما في ضمن يأمرهم إلخ، وجعل الحصر المدلول عليه بقوله سبحانه: أولئك هم المفلحون بالنسبة إلى غيرهم من الأمم ثم قال: فيدخل فيهم قوم موسى عليه السلام دخولا أوليا حيث لم ينجوا عما في توبتهم من المشقة الهائلة، وهو مبني على ما سلكه في تفسير الآيات من أول الأمر ولا يصفو عن كدر.