وحاصل الاختلاف فيه بين العلماء ( رحمهم الله ) على ثلاثة أقاويل فعندنا هو [ ص: 65 ] مضمون بالأقل من قيمته ، ومن الدين ، وعند ( رحمه الله ) هو مضمون بالدين قلت قيمته أو كثرت ، فإنه قال الرهن بما فيه ، وإن كان خاتما من حديد بمائة درهم ، وفي إحدى روايتي شريح رضي الله عنه : يترادان الفضل هذا بيان الاختلاف الذي كان بين المتقدمين رضي الله عنهم في الرهن ، إلى أن أحدث علي ( رحمه الله ) قولا رابعا أنه أمانة ، ولا يسقط شيء من الدين بهلاكه ، واستدل في ذلك بحديث الشافعي الزهري عن عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أبي هريرة } " ، وفي رواية { لا يغلق الرهن ، لصاحبه غنمه ، وعليه غرمه } ، وزعم أن معنى قوله : صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " لا يصير مضمونا بالدين فقد فسر ذلك بقوله : الرهن من راهنه الذي رهنه أي : من ضمان راهنه ، وقوله صلى الله عليه وسلم " وعليه غرمه " أي : عليه هلاكه ، فالغرم : عبارة عن الهلاك قال الله تعالى { : الرهن من راهنه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه : إنا لمغرمون } أي : هلكت علينا أموالنا ، والمعنى فيه : أن الرهن وثيقة بالدين فبهلاكه لا يسقط الدين كما لا يسقط بهلاك الصك وموت الشهود ، وهذا ; لأنه بعقد الوثيقة يزداد معنى الصيانة فلو قلنا : بأنه يسقط دين المرتهن بهلاكه كان ضد ما اقتضاه العقد ; لأن الحق به يصير بعرضة الهلاك ، وذلك ضد معنى الصيانة .
والدليل عليه : أن عين الرهن - ما زاد على قدر الدين - أمانة في يد المرتهن ، والقبض في الكل واحد ، وما هو موجب الرهن ، وهو الحبس ثابت في الكل ، فلا يجوز أن يثبت حكم الضمان بهذا القبض في البعض دون البعض .
والدليل عليه : أن عين الرهن تهلك على ذلك الراهن حتى لو كان عبدا فكفنه على الراهن ، ولو استحق وضمنه المرتهن يرجع بالضمان ، والدين جميعا على الراهن ، ولو كان قبضه قبض ضمان لم يرجع بالضمان عند الاستحقاق كالغاصب ، وعندكم لا يصير قابضا بنفس الشراء ولو كان مضمونا عليه بالقبض لكان قبضه عن الشراء كقبض الغاصب إذا اشترى المرتهن المرهون من الراهن لا يكون مضمونا عندكم كرهن المشاع وغيره ، والفاسد معتبر بالجائز في حكم الضمان ، وليس من ضرورة ثبوت حق الحبس الضمان ، كالمستأجر بعد الفسخ محبوس عند المستأجر بالأجرة المعجلة ، بمنزلة المرهون حتى إذا مات الآجر كان المستأجر أحق به من سائر غرمائه ثم لم يكن مضمونا إذا هلك ، وكذلك زوائد الرهن عندكم . ، والمقبوض بحكم الرهن الفاسد
والدليل على أنه أمانة : أن النفقة على الراهن دون المرتهن ، كما في الوديعة ، وحجتنا في ذلك ما أشرنا إليه من إجماع المتقدمين ( رضوان الله عليهم أجمعين ) فاتفاقهم على ثلاثة أقاويل يكون [ ص: 66 ] إجماعا منهم على أنه ليس فيه قول رابع ، لم يستدل بحديث { عطاء } ، ولا يجوز أن يقال ذهب حقك في الحبس ; لأن هذا مما لا يشكل ; ولأنه ذكر الحق منكرا في أول الحديث ثم أعاده معرفا ، فيكون المراد بالمعرف ما هو المراد بالمنكر قال الله تعالى { : أن رجلا رهن فرسا عند رجل بحق له فنفق الفرس عند المرتهن فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمرتهن : ذهب حقك : كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول } .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم { } أي : بما فيها من الديون ، ولا حجة لهم في قوله صلى الله عليه وسلم { : الرهن بما فيه ذهبت الرهان بما فيها } فإن أحدا من أهل اللغة لا يفهم منه هذا اللفظ ، بقي الضمان على المرتهن . : لا يغلق الرهن
وذكر أن أهل العلم من السلف ( رحمهم الله ) الكرخي كطاوس ، وغيرهما اتفقوا : أن المراد لا يحبس الرهن عند المرتهن احتباسا لا يمكن فكاكه بأن يصير مملوكا للمرتهن ، واستدلوا عليه بقول القائل : وإبراهيم
وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
يعني : احتبس قلب المحب عند الحبيب على وجه لا يمكن فكاكه ، وليس فيه ضمان ، ولا هلاك .والدليل عليه : ما روي عن الزهري قال : كانوا في الجاهلية يرتهنون ، ويشترطون على الراهن إن لم يقض الدين إلى وقت كذا فالرهن مملوك للمرتهن فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : { } وسئل لا يغلق الرهن رضي الله عنه عن معنى هذا اللفظ فقيل : أهو قول الرجل إن لم يأت بالدين إلى وقت كذا فالرهن بيع لي في الدين ؟ فقال : نعم . سعيد بن المسيب
وقوله : صلى الله عليه وسلم { } يؤكد هذا المعنى أي : هو على ملك راهنه الذي رهنه لا يزول ملكه بهذا الشرط ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم { الرهن من راهنه الذي رهنه } يعني في حال إبقائه هو مردود عليه لا يتملك غيره عليه ، أو أن يبيع بالدين فزاد الثمن على الدين فالزيادة له ، وإن انتقص فالنقصان عليه ، وبه نقول : والمعنى في المسألة : أن الرهن مقبوض للاستيفاء والمقبوض على وجه الشيء لا يكون كالمقبوض على حقيقته في حكم الضمان . له غنمه ، وعليه غرمه
( ألا ترى ) أن المقبوض على سوم البيع يجعل كالمقبوض على جهة الاستيفاء ، وبيان الوصف أن عقد الرهن يختص بما يمكن استيفاء الدين منه ، وهو المال المتقوم الذي يقبل البيع في الدين ، ويختص بحق يمكن استيفاؤه من الرهن ، وهو الدين حتى لا يجوز الرهن بالأعيان ، ولا بالعقوبات من القصاص ، والحدود ، وتحقيق ما ذكرنا أن موجب العقد ثبوت يد الاستيفاء ، وهذه اليد [ ص: 67 ] في حقيقة الاستيفاء تثبت الملك ، والضمان فكذا فيها أيضا يثبت الضمان في عقد الرهن يقرره أن عند . أبي حنيفة
( رحمه الله ) استيفاء المستوفى يكون مضمونا على المستوفي ، وله على الموفي مثل ذلك فيصير قصاصا به فكذلك إذا قبضه رهنا ، وصار مضمونا عليه بهذه اليد فإذا هلك وجب على المرتهن من أولها فيصير المرتهن مستوفيا حقه ، ولهذا يثبت الضمان بقدر الدين ، وصفته ; لأن الاستيفاء به يتحقق ، وكان الراهن جعل مقدار الدين في وعاء وسلمه إلى رب الدين ليستوفي حقه منه فعند هلاكه في يده يتم استيفاؤه في مقدار حقه ، ولهذا كان الفضل أمانة عنده بمنزلة ما لو فيكون أمينا في الزيادة ، ولهذا جعلت العين أمانة في يد المرتهن ; لأن الاستيفاء تحصل منه المالية دون العين ، والاستيفاء بالعين يكون استبدالا ، والمرتهن عندنا مستوف لا مستبدل ، وإنما يتحقق الاستيفاء بحبس الحق ، والمجانسة بين الأموال باعتبار صفة المالية دون العين فكان هو أمينا في العين ، والعين كالكيس في حقيقة الاستيفاء ، وبهذا التقرير اتضح الجواب عما قال ; لأن معنى الصيانة يتحقق إذا صار المرتهن بهلاك الرهن مستوفيا حقه ، وإنما ينعدم ذلك قلنا يتوى بينه ، والاستيفاء ليس مأتوا للحق ، ثم موجب العقد ثبوت يد الاستيفاء ، وفيه معنى الصيانة جعل خمسة عشر درهما في كيس ، ودفعه إلى صاحب الدين على أن يستوفي دينه منه عشرة