( كتاب الدعوى ) ( قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي إملاء : اعلم بأن الله تعالى خلق الخلق أطوارا علومهم شتى متباينة ولتباين الهمم تقع الخصومات بينهم فالسبيل في الخصومة قطعها ) لما في امتدادها من الفساد والله تعالى لا يحب الفساد بما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم { وطريق فصل الخصومات للقضاة } هذا وإن كان من اختيار الآحاد فقد تلقته العلماء رحمهم الله بالقبول والعمل به فصار في حيز التواتر وعد هذا من جوامع الكلم على ما قال عليه الصلاة والسلام { قال البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه } واختصر لي الحديث اختصارا فقد تكلم كلمتين استنبط العلماء رحمهم الله منهما ما بلغ دفاتر فقال أوتيت جوامع الكلم في قوله تعالى { قتادة وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب } أن الحكمة النبوة وفصل الخطاب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه فهذا دليل على أن [ ص: 29 ] ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان في شريعة من قبله وفي هذا الحديث بيان أن المدعي غير المدعى عليه لأنه صلى الله عليه وسلم ميز بينهما وذلك تنصيص على المغايرة كما في قوله صلى الله عليه وسلم { } يكون تنصيصا على أن العاهر غير صاحب الفراش والمدعي لغة من يقصد إيجاب حق على غيره فالمدعي فعل يتعدى مفعوله فيكون المدعي اسما لفاعل الدعوى كالضارب والقاتل إلا أن إطلاق اسم المدعي في عرف اللسان يتناول من لا حجة له ولا يتناول من له حجة فإن القاضي يسميه مدعيا قبل إقامة البينة فأما بعد إقامة البينة يسميه محقا لا مدعيا ويقال الولد للفراش وللعاهر الحجر لمسيلمة مدعي النبوة ولا يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يدعي النبوة لأنه قد أثبته بالمعجزة فعرفنا أن إطلاق الاسم على من لا حجة له عرفا
وهذا الحديث يشتمل على أحكام بعضها يعرف عقلا وبعضها شرعا فقوله صلى الله عليه وسلم { } يدل على أنه لا يستحق بمجرد الدعوى وهذا معقول لأنه خبر متمثل بين الصدق والكذب والمحتمل لا يكون حجة فدل على أنه يستحق بالبينة وهذا شرعي وفي خبر الشهود الاحتمال قائم ولا يزول بظهور العدالة لأن العدل غير معصوم عن الكذب أو القصد إلى الكذب فحصول البينات أو الاستحقاق بشهادتهم شرعي وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم { البينة على المدعي } ففيه دليل على أن القول قوله وهذا معقول لأنه متمسك بالأصل فالأصل براءة ذمته وانتفاء حق الغير عما في يده وفيه دليل توجه اليمين عليه وهذا شرعي وكان المعنى فيه والله أعلم أن المدعي يزعم أنه صار متويا حقه بإنكاره فالشرع جعل له حق استحلافه حتى إن كان الأمر كما زعم فاليمين العمومي مهلكة للمدعى عليه فيكون أتوا بمقابلة أتواء وهو مشروع وإن كان بخلاف ما زعم نال المدعى عليه الثواب بذكر اسم الله تعالى على سبيل التعظيم صادقا ولا يتضرر به وفيه دليل على أن حبس البينات في جانب المدعيين لإدخال الألف واللام في البينة فلا تبقى بينة في جانب المدعى عليه لأن مطلق التقسيم يقتضي انتقاء مشاركة كل واحد منهما عن قسم صاحبه فيكون حجة لنا أن بينة ذي اليد على إثبات الملك لنفسه غير مقبولة في معارضة بينة الخارج ويدل على أن جنس الإيمان في جانب المدعى عليه ولا يمين في جانب المدعي فيكون دليلا لنا في أنه لا يرد اليمين على المدعي عند نكول المدعى عليه وهكذا ذكره عن اليمين على المدعى عليه رحمه الله في الكتاب فقال كان لا يرد يعني عملا بالحديث كان لا يرد اليمين ويكون حجة لنا في أنه لا يجوز إبراهيم إذ لا يمين في جانب المدعي ولأنه جعل الفاصل للخصومة سببين بينة في جانب المدعي ويمينا في جانب المدعى عليه القضاء بشاهد واحد مع [ ص: 30 ] يمين المدعي
والشاهد واليمين ليست بينة ولا يمين المدعى عليه فكون إثبات طريق ثالث وهو مخالف لهذا الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم المدعي عام لم يدخله خصوص فالمدعي لا يستحق بنفس الدعوى ويستحق بالبينة في الخصومات كلها وقوله صلى الله عليه وسلم { } عام دخله خصوص وهو ما لا يجري فيه الاستحلاف من الحدود وغيرها واليمين على المدعى عليه