كتاب الرجوع عن الشهادة
( قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء : اعلم بأن أداء الشهادة بالحق مأمور به شرعا ) قال الله تعالى { وأقيموا الشهادة لله } أمروا به للوجوب . وقال الله تعالى { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } والنهي عن الإباء عند الدعاء أمر بالحضور للأداء . وقال الله تعالى { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } واستحقاق الوعيد بترك الواجب { } وشهادة الزور من الكبائر { . وقال صلى الله عليه وسلم كاتم الشهادة بالحق كشاهد الزور فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } } ، وفي هذا بيان كرامة المؤمن فقد جعل الله تعالى الشهادة عليه بما لا أصل له بمنزلة شهادة الكافر على ذاته بما لا أصل له من شريك ، أو صاحب ، أو ولد { قال صلى الله عليه وسلم في خطبته أيها الناس عدلت شهادة الزور بالأشراك بالله تعالى ، ثم تلا قوله تعالى { } ، وفي رواية { . وقال صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا نعم قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فاستوى جالسا ، ثم قال ألا وقول الزور فجعل يكررها حتى قلنا ليته يسكت } ، وفي حديث سأله رجل عن الكبائر فقال صلى الله عليه وسلم الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس بغير حق وقول الزور رضي الله عنه { سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشاهد بالزور لا يرفع قدميه من مكانهما حتى تلعنه الملائكة في السموات والأرض } فيحق على كل مسلم الاجتناب عنها بجهده والتوبة عنها متى وقع فيها خطأ ، أو عمدا ، وذلك بأن يرجع عن الشهادة وليكن رجوعه في مجلس القضاء ; لأنه فسخ للشهادة التي أداها .
وقد اختصت الشهادة بمجلس القضاء فالرجوع عنها كذلك ، وهذا لأن التوبة بحسب الجريمة { } . فإذا كانت جريمته في مجلس القضاء جهرا فلتكن توبته بالرجوع كذلك ولا يمنعه الاستحياء من الناس وخوف اللائمة من إظهار قال صلى الله عليه وسلم السر بالسر والعلانية بالعلانية فلأن يراقب الله تعالى خير له من [ ص: 178 ] أن يراقب الناس ورجوعه صحيح مقبول في حقه ، وإن كان مردودا فيما يرجع إلى حق غيره حتى إذا رجع قبل القضاء لم يقض القاضي بشهادته لبطلانها بالرجوع . وإذا رجع بعد القضاء لم يبطل برجوعه حق المقضي له والأصل فيه الحديث الذي بدأ الكتاب به ورواه عن الرجوع في مجلس القضاء الشعبي رحمه الله أن رجلين شهدا عند رضي الله عنه على رجل بالسرقة فقطع يده ، ثم آتيا بعد ذلك بآخر فقال أوهمنا إنما السارق هذا فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لهما لا أصدقكما على هذا الآخر وأضمنكما دية يد الأول ، ولو أني أعلمكما فعلتما ذلك عمدا قطعت أيديكما ففيه دليل أن الرجوع عن الشهادة صحيح في حقه ، وأنه عند الرجوع ضامن ما استحق بشهادته ، وأنه غير مصدق في حق غيره للتناقض في كلامه والمناقض لا قول له في حق غيره ، ولكن التناقض لا يمنع إلزامه حكم كلامه ، ثم علي رحمه الله يستدل بالحديث في فصلين أحدهما في وجوب الشافعي وزعموا أنهم تعمدوا ذلك في شهادتهم ، وفي أن القصاص على الشهود إذا رجعوا بعد ما استوفى العقوبة بشهادتهم فقد قال ، ولو أني أعلمكما فعلتما ذلك عمدا قطعت أيديكما . اليدين يقطعان بيد واحدة
فإذا جاز قطع اليدين في يد واحدة بطريق الشهادة فبالمباشرة أولى ، ولكنا نقول هذا اللفظ منه على سبيل التهديد بدون التحقيق ، وقد تهدد الإمام بما لا يتحقق قال رضي الله عنه ، ولو تقدمت في المتعة لرجمت والمتعة لا توجب الرجم بالاتفاق ، ثم لم يكن من عمر رضي الله عنه هكذا كذبا ; لأنه علق بما لا طريق إليه وهو العلم بأنهما فعلا ذلك عمدا فلم يكن هذا كذبا بهذا التعليق ويحصل المقصود وهو الزجر وهو نظير قوله تعالى { علي بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } ، ثم لم يكن هذا الكلام من إبراهيم صلوات الله عليه كذبا ; لأنه علقه بما لا يكون ومعناه إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم والدليل عليه أن من مذهب رضي الله عنه أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة فقد روي ذلك عنه في الكتاب فهذا تبين أن مراده التهديد . علي
وذكر عن حماد رحمه الله أنه كان يقول في فإنه ينظر إلى حالهما يوم رجعا فإن كان حالهما أحسن منه يوم شهدا صدقهما القاضي في الرجوع ورد القضاء وأبطله ، وإن كان حالهما يوم رجعا مثل حالهما يوم شهدا دون ذلك لم يصدقهما القاضي ولم يقبل رجوعهما ولم يضمنهما شيئا وكان القضاء الأول ماضيا وبهذا كان الشاهدين إذا رجعا عن الشهادة بعد قضاء القاضي رحمه الله يقول أولا ، ثم رجع فقال لا أبطل القضاء بقولهما لآخر ، وإن كان أعدل منهم يوم شهدا ، ولكن أضمنهما المال الذي شهدا به وهو قول أبو حنيفة أبي يوسف رحمهما الله . ومحمد
وجه قوله الأول [ ص: 179 ] أن كل واحد من الخبرين متردد بين الصدق والكذب فإنما يترجح جانب الصدق فيه بالعدالة وحسن حال المخبر . فإذا كانت عدالته عند الرجوع أظهر وحاله عند ذلك أحسن فرجحان جانب الصدق في هذين الخبرين بين والظاهر أن رجوعه توبة واستدراك لما كان منه من التفريط والقاضي يتبع الظاهر ; لأنه ما وراء ذلك غيب عنه . وإذا كان حاله عند الرجوع دون حاله عند الشهادة فرجحان جانب الكذب في الرجوع أبين والظاهر أنه بالرجوع قاصد إلى الإضرار بالمقضي له ، وإن كان حاله عند الرجوع مثل حاله عند أداء الشهادة فعند المساواة يترجح الأول بالسبق واتصال القضاء به فإن الشيء لا ينقضه ما هو مثله ، أو دونه وينقضه ما هو فوقه ولا ضمان عليه ; لأنه ما يتناول شيئا إنما أخبر بخبر ، وذلك لم يكن موجبا للإتلاف بدون القضاء والقاضي يختار في قضائه فذلك يمنع إضافة الإتلاف إلى الشهادة ; فلهذا لا يضمن الشاهد شيئا .
وجه قوله الآخر أن ظاهر العدالة ترجح جانب الصدق في الخبر ، ولكن لا ينعدم به معنى التناقض في الكلام وهو بالرجوع مناقض في كلامه فعدالته عند الرجوع لا تعدم التناقض وكما أن القاضي لا يقضي بالكلام المتناقض . فكذلك لا ينقض ما قضاه بالكلام المتناقض . فكذلك لا ينقض ما قضاه بالكلام المتناقض ، ثم جانب الصدق يعين في الشهادة وتأكد ذلك بقضاء القاضي في حق المقضي له فيه بتعين جانب الكذب في الرجوع . وإذا كان تهمة الكذب عند الرجوع لفسقه يمنع القاضي من إبطال القضاء فتعين الكذب فيه بدليل شرعي ; لأنه يمنعه من إبطال القضاء أولى فلو أبطل القضاء باعتبار هذا المعنى أدى إلى ما لا يتناهى ; لأنه يأتي بعد ذلك فيرجع عن هذا الرجوع فيجب إعادة القضاء الأول ، ولكن يجب الضمان عليه لإقراره عند الرجوع أنه أتلف المال على المشهود عليه بشهادته بغير حق ، وإن كان يحصل بقضاء القاضي فسبب القضاء شهادة للشهود ، وإنما يحال بالحكم على أصل السبب ، وهذا ; لأن القاضي بمنزلة الملجأ من جهتهم فإن بعد ظهور عدالتهم يحق عليه القضاء شرعا ، ثم السبب إذا كان تعديا بمنزلة المباشرة في إيجاب ضمان المال ، وقد أقر بالتعدي في السبب الذي كان منهما وبهذا السبب سلط المشهود له على مال المشهود عليه ، ولو تسلطا عليه بإثبات اليد لأنفسهما ضمنا . فكذلك إذا سلطا الغير عليه ; لأن وجوب الضمان للحاجة إلى الجيران ودفع الضرر والخسران عن المتلف عليه ، وقد تحققت الحاجة إلى ذلك ولا يمكن إيجاب الضمان على القاضي ; لأنه غير متعد في القضاء بل هو مباشر لما فرض عليه ظاهرا فتعين الشهود لإيجاب الضمان عليهم . والتناقض لا يمنع ثبوت حكم إقراره على نفسه والإتلاف