باب الإيلاء
( قال ) : رضي الله تعالى عنه الإيلاء - في اللغة - هو اليمين قال القائل : قليل الألايا حافظ ليمينه وإن بدرت منه الألية برت ، - وفي الشريعة - عبارة عن يمين يمنع جماع المنكوحة ، هكذا نقل عن رحمه الله تعالى ، وقد كان إبراهيم فجعله الشرع طلاقا مؤجلا بقوله تعالى : { الإيلاء طلاقا في الجاهلية للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر . } وإذا أو لم يقل أبدا فهو مول ; لأن مطلق اللفظ فيما يتأبد يقتضي التأبيد وبعدما صار موليا إن جامعها قبل تمام أربعة أشهر فعليه كفارة [ ص: 20 ] اليمين لوجود شرط الحنث وقد سقط الإيلاء ; لأن ثبوت حكم الإيلاء بقصده الإضرار والتعنت بمنع حقها بالجماع ، وقد زال ذلك حين أوفاها حقها ، وهو الفيء المذكور في قوله تعالى { حلف الرجل لا يجامع امرأته أبدا فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم } لأن الفيء عبارة عن الرجوع يقال : فاء الظل إذا رجع وقد رجع عما قصد من الإضرار حين جامعها ، ولهذا قال بعض الناس ليس عليه كفارة ; لأن الله تعالى وعده بالرحمة والمغفرة بقوله تعالى : { فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم } ولكنا نقول حكم الكفارة عند الحنث ثابت بقوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } الآية . ، وإن مضت المدة قبل أن يفيء إليها طلقت تطليقة بائنة عندنا ، وكان معنى الإيلاء إن مضت أربعة أشهر ، ولم أجامعك فيها فأنت طالق تطليقة بائنة هكذا نقل عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين قالوا : عزيمة الطلاق مضي المدة ، وعند لا يقع الطلاق بمضي المدة ، ولكنه يوقف بعد المدة حتى يفيء إليها أو يفارقها فإن أبى أن يفعل فرق القاضي بينهما ، وكان تفريقه تطليقة بائنة . الشافعي
والكلام في فصلين ( أحدهما ) أن عنده ; لأن الله تعالى قال : { الفيء بعد مضي المدة للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } فبين أن هذه المدة للزوج لا عليه وإنما تكون المدة له إذا كان الأمر موسعا عليه ، والتضييق بعده فأما إذا كان مطالبا بالجماع في المدة فلا تكون المدة له ثم قال الله تعالى : { فإن فاءوا } وحرف الفاء للتعقيب . عرفنا أن الفيء الذي يؤمر به الزوج بعد مضي المدة وعندنا الفيء في المدة بقراءة رضي الله عنه ( فإن فاءوا فيهن ) . وقراءته لا تتخلف عن سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتقسيم في قوله تعالى { ابن مسعود وإن عزموا الطلاق } دليل على أن الفيء في المدة وعزيمة الطلاق بعده كما في قوله تعالى { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } ، والإمساك بالمعروف بالمجامعة في المدة ، والتسريح بالإحسان بتركها حتى تبين بمضي المدة ، وهذا التربص مشروع للزوج ; لأن الإيلاء كان طلاقا معجلا فجعل الشرع للزوج فيه مدة أربعة أشهر حتى مكنه من التدارك في المدة وجعل الطلاق مؤخرا إلى ما بعد المدة .
( والفصل الثاني ) أن ; لأن الله تعالى قال : { الفرقة عنده ، لا تقع إلا بتفريق القاضي بينهما أو بإيقاع الزوج الطلاق وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } . وهو إشارة إلى أن عزيمة الطلاق بما هو مسموع وذلك بإيقاع الطلاق أو تفريق القاضي ، والمعنى فيه أن التفريق بينهما لدفع الضرر عنها عند فوت الإمساك بالمعروف ، فلا يقع إلا بتفريق القاضي كفرقة العنين ، فإن بعد مضي المدة [ ص: 21 ] هناك لا تقع الفرقة إلا بتفريق القاضي بل أولى ; لأن الزوج هناك معذور وهنا هو ظالم متعنت ، والقاضي منصوب لإزالة الظلم فيأمره أن يوفيها حقها ، أو يفارقها ، فإن أبي ناب عنه في إيقاع الطلاق وهو نظير التفريق بسبب العجز عن النفقة على قوله .
( وحجتنا ) في ذلك قوله تعالى { وإن عزموا الطلاق } فذكر عزيمة الطلاق بعد ذكر المدة ، فهو إشارة إلى أن ترك الفيء في المدة عزيمة الطلاق عند مضي المدة وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { } وقد أضاف إلى الزوج فدل أن الطلاق يتم به من غير حاجة إلى قضاء القاضي ، ومعنى قوله تعالى { عزيمة الطلاق مضي أربعة أشهر فإن الله سميع عليم } سميع لإيلائه عليم بقصده الإضرار ; ولأن هذه المدة مدة تربص بعدما أظهر الزوج من نفسه أنه غير مريد لها فتبين بمضيها كمدة العدة بعد الطلاق الرجعي ، ولا فرق ; لأن هناك الزوج بالطلاق يظهر كراهية صحبتها فيصير في المعنى كأنه علق البينونة بمضي المدة قبل أن يراجعها ، وهنا هو بيمينه يظهر كراهيتها فيصير كأنه علق البينونة بمضي الوقت قبل أن يفيء إليها ، ولهذا جعلنا الواقعة تطليقة بائنة ; لأن المقصود دفع ضرر التعليق عنها ، وذلك لا يحصل بالتطليقة الرجعية ، ولكن العدة هنا تجب هنا بعد وقوع الطلاق بمضي المدة ; لأن وقوع الطلاق بعده ، وهناك الطلاق كان واقعا فجعلنا الأقراء محسوبة من العدة ، وكذلك لو حلف لا يقربها أبدا ; لأن القربان متى ذكر مضافا إلى النساء فالمراد به الجماع ، وإن قال الزوج لم أعن الجماع لم يصدق في القضاء ; لأنه قصد تغيير اللفظ عن الظاهر المتعارف فلا يصدق في القضاء هنا ، ولا في الفصل الأول ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى ; لأن حقيقة معنى الجماع هو الاجتماع ففيما نوى به مما سوى الجماع هو محتمل فيدين فيما بينه وبين الله تعالى ، وإن وقال : لم أعن الجماع فهو مصدق في القضاء ; لأن الدخول عليها لفظ مشترك يستعمل في الجماع والزيارة وغير ذلك فالمنوي غير مخالف للظاهر ، وحرف الصلة يدل عليه وهو " على " فإنه إذا كان المراد الجماع يقال : دخل بها . حلف لا يدخل عليها
وكذلك لو حلف ليغيظنها أو ليسؤنها ، أو لا يجمع رأسه ورأسها شيء ، أو لا يمسها ، وفي نسخ أبي سليمان أو لا يلامسها فهذه الألفاظ تطلق في الجماع ، وغير الجماع فإن نوى بها الجماع كان موليا وإن نوى غير الجماع لم يكن موليا ، لأن المولي من لا يتمكن من الجماع في المدة ، إلا بشيء يلزمه حتى يتحقق إضراره بمنع حقها في الجماع ، وإن حلف لا يمس جلده جلدها وعنى به حقيقة المس ، فالحنث هنا يحصل بدون الجماع [ ص: 22 ] فلا يكون إيلاء ويمكنه أن يجامعها من غير أن يلزمه شيء بأن يلف آلته في حريرة ، ثم يدسه فيها وقال في رواية أبي حفص : رحمه الله تعالى إذا حلف لا يأتيها وعنى الجماع فهو مول ، وإن قال لم أعن الجماع صدق في القضاء مع يمينه ; لأن الإتيان قد يراد به الجماع ، ويراد به الزيارة أو الضرب فكان اللفظ محتملا ، والمحتمل لا يوجب شيئا بدون النية ، وكذلك لو حلف لا يغشاها فهو مدين في القضاء ; لأن الغشيان يراد به الجماع قال الله تعالى : { فلما تغشاها } ويراد به غير الجماع قال الله تعالى : { وإذا غشيهم موج . } وكذلك لو حلف لا يقرب فراشها فلفظ القرب إضافة إلى فراشها لا إليها ، ولذلك يحتمل الجماع وغيره ، فإن عنى الجماع فهو مول وإلا فليس بمول ; لأنه يتمكن من أن يجامعها من غير حنث إما على الأرض أو بأن تدخل هي فراشه من غير أن يقرب هو فراشها ، وإن فهو مول ، ولا يصدق في القضاء ; لأن ظاهر اللفظ للجماع ، فإن المباضعة إدخال البضع في البضع فلا يصدق في صرف اللفظ عن ظاهره ، وكذلك لو حلف لا يغتسل منها من جنابة ; لأن الاغتسال منها إنما يكون بالجماع في الفرج خاصة فأما الجماع فيما دون الفرج يكون اغتسالا من الإنزال لا منها ، وإن كان ظاهر لفظه للجماع في الفرج لم يصدق في صرف اللفظ عن ظاهره وكان موليا بمنعه حقها بيمينه . فإن حقها في الجماع في الفرج لا فيما دونه . حلف لا يباضعها